بعد عام على التحرير، تتكشف بوضوح أزمة عميقة تتمثل في الغياب شبه الكامل لمقومات الدولة، حيث تعمل السلطة في فراغ تشريعي ودستوري خطير. فلم يُعتمد أي قانون ناظم للمرحلة الانتقالية، في حين جرى خرق الإعلان الدستوري مرات متكررة أفقدته قيمته كمرجع ملزم. وتحولت العدالة الانتقالية من إطار لإنصاف الضحايا وإعادة بناء الثقة المجتمعية إلى أداة انتقائية تُستخدم لمعاقبة بعض الخصوم، بل وتعدّت ذلك إلى تعيين أشخاص ذوي سجل إجرامي في مواقع السلطة الحالية.
وفي موازاة ذلك، تتعرض الإدارة المحلية لتشوهات متراكمة تُضعف أهليتها، بدءًا من غياب الحوكمة وتضارب الصلاحيات، مروراً بتعيينات بلا معايير واضحة أو كفاءة، وصولاً إلى غياب الرقابة، ما جعلها عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية. أما الإعلام، الذي ينبغي أن يكون رقيباً على السلطة، فقد تحوّل إلى أداة لتوجيه الرأي العام وحماية الحكم من النقد، الأمر الذي انعكس على الحياة العامة عبر اختفاء التعددية، وتوقف الحوار، وتراجع الشفافية.
تُضاف إلى ذلك خلل بنيوي في المنظومة القانونية نفسها؛ إذ لا يوجد قانون عاملين موحد بين المناطق، وتختلف الحقوق والرواتب والمعايير باختلاف الجغرافيا. كما يخضع قانون الجمعيات للأهواء الفردية، بينما يُمنع العمل الحزبي تماماً، ما يغلق الباب أمام بناء حياة سياسية منظمة.
وفي ظل تعطّل مجلس الشعب وعدم اكتماله، تتعطل معه الشرعية التشريعية، فيما تنشأ إلى جانب الحكومة الرسمية هيئات موازية تشاركها القرار وتضعف قدرتها على أداء دورها، فتتحول الدولة إلى بنية متداخلة بلا مسؤولية واضحة أو تسلسل سلطوي محدد. ومع غياب الأحزاب والمجتمع المدني الحر والإعلام المستقل والتمثيل الشعبي، تبدو الجمهورية الناشئة بلا جمهور، والسلطة بلا قاعدة اجتماعية تستند إليها.
وتتجلى مظاهر هذا الفراغ السياسي والمؤسسي في عدة نقاط إضافية؛ فقد اقتصر الحوار الوطني على بضع ساعات دون أي نتائج ملموسة، بينما تم تسريب الإعلان الدستوري عبر قناة الجزيرة قبيل أول اجتماع للجنة الدستورية، الأمر الذي قوّض مصداقية العملية برمتها، وهو الإعلان نفسه الذي تم خرقه عشرات المرات لاحقاً. كما تعمل الحكومة الانتقالية ضمن فراغ تشريعي، إلى جانب هيئات موازية تمارس جزءاً من السلطة، ما يضعف مبدأ المسؤولية ويعقّد عملية اتخاذ القرار.
وتستند التعيينات الإدارية في العديد من المواقع إلى الولاءات الشخصية والعائلية بدلاً من الكفاءة والخبرة، فيما تُستخدم بعض المناصب كأداة لترضية مجموعات من الثوار، لا كوسيلة لتقوية المؤسسات. ويضاف إلى ذلك بوادر تشير إلى محاولة لإعادة تشكيل “البعث الجديد”، من خلال توجيه الإدارة السياسية بطريقة تعيد إنتاج أنماط الحكم السابقة، بدل تأسيس دولة جديدة قائمة على المؤسسات والحقوق.
إن هذه المحصلة تؤكد أن التحرير، رغم أهميته التاريخية، لم يتحول بعد إلى مشروع دولة حقيقية، وأن البناء المؤسسي ما يزال غائباً بصورة لا يمكن تجاهلها. فالدولة لا تُبنى بالشعارات ولا بالمبادرات الفردية؛ بل تحتاج إلى إرادة سياسية واضحة تعيد تأسيس العقد القانوني والمؤسساتي على أسس راسخة تشمل: تشريعات دستورية مؤقتة، وسلطة تشريعية منتخبة، ونظام حوكمة صارم، وإدارة محلية مؤسسية، وإعلام مستقل، ومجتمع مدني فاعل، وسياسات عامة تستند إلى المعايير لا إلى الأهواء.
دون هذه المقومات، سيظل التحرير خطوة معلّقة، وستبقى الدولة مؤجّلة، مهما تغيّرت الوجوه وتبدّلت الشعارات.
