تيارات جديدة، تحديات قديمة، ومسؤوليات ثقيلة في سوريا ما بعد الأسد. مرّ أكثر من ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، الحدث الذي شكّل نقطة تحوّل تاريخية في مسار الثورة السورية. إلا أن هذا السقوط، رغم رمزيته الكبيرة، لم يكن نهاية النضال، بل بداية مرحلة جديدة من التحديات والأسئلة المعقّدة.
فهل انتصرت الثورة حقًا؟ وهل تحققت قيم الكرامة والحرية التي هتف بها السوريون منذ عام 2011؟ أم أننا نعيش فصلًا جديدًا من صراع النفوذ، بوجوه وشعارات مختلفة؟
لقد انقسم السوريون إلى تيارات ومجموعات متعددة، بعضها انطلق من قناعة وطنية، وبعضها الآخر ارتبط بمصالح آنية، شخصية أو فئوية، وجزء منها اتجه براغماتيًا مع تغيّر موازين القوى.
هذه التباينات ليست بالضرورة خطرًا، فقد تحمل في طيّاتها منافسة صحية تحفّز على تقديم الأفضل. لكنّ الخطر الحقيقي يكمن في غياب البوصلة الوطنية، وفي انزلاق البعض نحو تبديل المبادئ والمواقف بما يخدم نفوذهم أو مواقعهم الجديدة، لا بما يخدم الوطن والدولة.
يرى بعض الناشطين أن الوقت ما زال مبكرًا لنقد السلطة الجديدة أو مؤسسات الدولة التي لا تزال في طور التشكّل، ويصل الأمر لدى البعض إلى حد التخوين لكل من يجرؤ على النقد.
في المقابل، يرفض آخرون الصمت، ويصرّون على ضرورة تسليط الضوء على الأخطاء، لا من باب العرقلة أو الهدم، بل من أجل التصويب والبناء. ويؤكّد كثير من الصحافيين أن الرقابة المجتمعية ضرورية لمنع تكرار ممارسات حقبة الأسد الأب والابن، تلك التي عُرفت بوحشيتها وفسادها وبُعدها الكامل عن العدالة ومصلحة البلاد.
فالصحافة ليست عدوة للسلطة، بل شريك أساسي في إعادة بناء الدولة، على قاعدة احترام الحقوق والمساءلة.
المهندس بريتا حاجي حسن، الذي شغل منصب رئيس مجلس مدينة حلب خلال عامي 2015–2016، يرى أن التحولات الجارية تضع الجميع أمام اختبار جديد. وبصفته منخرطًا في العمل الإداري والمؤسساتي، وجّه رسالة مفتوحة إلى لجنة الانتخابات، دعا فيها إلى مراجعة شاملة للآليات المتبعة في تشكيل المجلس التشريعي القادم.
وأشار حاجي حسن إلى أن السوريين ما زالوا يحملون ذاكرة مؤلمة تجاه ما يُسمى بـ”مجلس الشعب”، نتيجة لسنوات من التزييف والتهميش وغياب التمثيل الحقيقي.
ودعا إلى تنظيم عملية انتخابية تبدأ بتشكيل لجان فرعية قائمة على توافق وطني، تضم ممثلين عن النقابات، والمجتمع المدني، والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية. يلي ذلك وضع معايير دقيقة وشفافة للترشح، تشمل الخبرة، والقبول المجتمعي، والكفاءة، والمؤهلات، والبرنامج العملي، تليها مرحلة الطعون، ثم اعتماد ممثلين يعكسون حقيقة الشارع السوري، لا مجرد واجهته.
وأكد أن هذه العملية لا يمكن اختصارها في بضعة أسابيع، بل تتطلب فترة لا تقل عن ستة أشهر لضمان الشفافية وتفادي تكرار التجارب الفاشلة وعودة الوجوه غير المؤهلة.
وحذّر من أن استعجال العملية أو إجرائها دون معايير واضحة سيعيد إنتاج مشهد “اللُّوشة السياسية” التي سادت لعقود، ويغذّي حالة الإحباط الشعبي.
وأشار إلى أن نجاح العملية مرهون بثلاثة عناصر أساسية:
1. تعيين لجان على أسس واضحة.
2. ممارسات نزيهة من لجنة الانتخابات.
3. تشكيل هيئات ناخبة مستقلة عن العلاقات والولاءات.
وختم بالقول:“قد لا تكون بعض المعايير قابلة للقياس العددي، لكنها قابلة للتحليل والمراقبة. والتاريخ لن يرحم من يهدر فرصة جديدة أو يعيد تدوير الفشل.”
في ضوء ذلك، لا ينبغي اختزال الثورة في لحظة سقوط الأسد، فالثورة السورية، في جوهرها، فعل مستمر لبناء دولة تعكس تطلعات السوريين إلى الحرية والعدالة والمساواة.
نحن اليوم في مفصل تاريخي، تتقدم فيه سوريا نحو البناء، وتتقدم معه المسؤوليات على الجميع — من صُنّاع القرار، إلى الإعلام، إلى المجتمع المدني.
فإما أن نغتنم الفرصة لإعادة بناء الدولة على أسس صحيحة، أو نعيد إنتاج الخيبة ذاتها… بأسماء جديدة وشعارات أكثر تجميلًا.
والسؤال الذي يجب أن يبقى حيًّا في ضمير كل سوري:هل نُعيد بناء دولة؟ أم نُعيد بناء نظام.
شاهد أيضاً : السلم الأهلي لا يُبنى على جماجم الضحايا… العدالة أولًا، حتى لا نعود إلى مربع العنف.