تحقيقات صحفيةسوريا

مدارس مكتظّة ومدارس بلا تراخيص: أزمة تعليم تخنق أهالي مدينة الباب

مدارس مكتظّة ومدارس بلا تراخيص: أزمة تعليم تخنق أهالي مدينة الباب

لم يعد التعليم في مدينة الباب كما كان قبل سنوات، حين كان مقعد المدرسة حقًا مجانيًا ومتاحًا للجميع. اليوم، تتكدّس الصفوف بالطلاب إلى حد يفترش فيه بعضهم الأرض، بينما تتزايد المدارس الخاصة بلا تراخيص ودون رقابة، لتضع الأهالي أمام خيارين كلاهما مرّ: تعليم مجاني ولكنه رديء ومكتظ، أو تعليم خاص أفضل نسبيًا لكنه يرهق جيوب العائلات ويستنزف مواردها المحدودة.

في أحد صفوف المدينة، يقف المعلم محمد كحاط أمام غرفة لا تتسع لأكثر من ثمانية عشر مقعدًا، فيما يحاول استيعاب خمسة وأربعين طالبًا يتنازعون على رؤية السبّورة. بعضهم يجلس على الأرض، وبعضهم يتشارك المقعد الواحد، في مشهد بات جزءًا من “الطبيعي” داخل المدارس الحكومية. وعلى بُعد أمتار من المدرسة، ترتفع لافتات “مدرسة خاصة حديثة” التي تقدم نفسها كحلّ بديل، لكنها مكلفة وغالبًا تعمل دون ترخيص، ما يجعل الأهالي محاصرين بين مستوى تعليمي منخفض وآخر باهظ لا يضمن الجودة.

تكشف الإحصاءات الرسمية لعام 2024 حجم الأزمة التعليمية في مدينة الباب، حيث يبلغ عدد المدارس 136 مدرسة، منها 76 مدرسة حكومية و60 مدرسة خاصة، لكن عدد المدارس الخاصة المرخّصة لا يتجاوز أربع مدارس فقط. وفي الصفوف الضيقة التي لا تتسع لأكثر من 18 مقعدًا، يتكدّس ما بين 35 و45 طالبًا، ما يؤدي إلى اختناق العملية التعليمية ويؤثر سلبًا على التركيز والتحصيل الدراسي.

تدهور التعليم العام في مدينة الباب لم يكن وليد لحظة واحدة، بل نتيجة تراكمات عديدة. فبسبب ضعف التمويل، يعتمد كثير من المدارس على حوافز غير ثابتة للمعلمين، ما يؤدي إلى دوران وظيفي دائم ويؤثر على استقرار العملية التعليمية. ويأتي نقص الكوادر التعليمية ليزيد من تفاقم المشكلة، في وقت تحذّر فيه تقارير اليونسكو من آثار الاكتظاظ على جودة التعلم حول العالم، خاصة في البيئات الهشّة. كما خلّفت موجات النزوح المتكررة وزلزال شباط 2023 أضرارًا كبيرة في البنية التعليمية، وتسببت في تعطّل دراسي واسع، لتتكدس المدارس القليلة المتبقية بعدد يفوق قدرتها.

وفي ظل تعدد الجهات المشرفة بين مديريات ومجالس محلية وجهات داعمة، ظهرت فجوات تنظيمية واسعة، سمحت بانتشار المدارس الخاصة دون ضوابط أو معايير واضحة، ما أدى إلى حالة من الفوضى التعليمية. ورغم أن معايير INEE للتعليم في الطوارئ لا تفرض رقمًا عالميًا لحجم الصف، إلا أنها تشدد على ضرورة الاعتماد على معيار محلي واقعي، وهو ما لا يتحقق في مدينة تسجّل كثافات تصل إلى 45 طالبًا في الصف الواحد، متجاوزة الحد التخطيطي الشائع عالميًا وهو 1:40.

في مدرسة حكومية، يدخل عمر عثمان طالب في الصف الرابع  متأخرًا. كل المقاعد مشغولة، فيفرش دفتره على الأرض قرب النافذة، محاولًا التقاط صوت المعلم وسط ضجيج الطلاب. يصعب عليه رؤية السبّورة، فينسخ واجباته على دفعات بحسب ما يفسح له زملاؤه من رؤية. حلمه بسيط لكنه مؤلم: “بدي أصير مهندس وبني مدرسة واسعة”. شهادته تختصر أزمة الاكتظاظ وتبخر فرص التعلم الفردي.

أما رقية الوزير، التي لديها ثلاثة أطفال موزعين بين مدارس حكومية وخاصة، فتروي أنها تدفع نصف راتب زوجها أقساطًا للمدرسة الخاصة. لجأت إليها بعد تجربة سيئة في مدرسة حكومية مكتظة، لكنها اليوم تعاني لتأمين ثمن الدواء والإيجار. تقول وهي تقلّب دفاتر الأقساط: “مش طالبين ترف… طالبين صف يتعلّم فيه الولد”. الشعور الذي يرافقها دائمًا هو أنها مجبرة على الاختيار بين تعليم ناقص في العام أو ديون مرهقة في الخاص.

المعلم محمد، بخبرة تمتد خمسة عشر عامًا، يرى أن الأزمة الحقيقية ليست في هروب الأهالي نحو المدارس الخاصة، بل في غياب الدعم الحقيقي للمدارس الحكومية: غرف إضافية، مقاعد كافية، تدريب للمعلمين، ورواتب مستقرة. يقول: “خمسة وأربعون طالبًا… كيف ممكن أتابعهم؟ وكيف ممكن ينجح التعلم بهيك ظروف؟”. شهادته تعكس المعضلة المهنية والأخلاقية التي يواجهها المعلمون يوميًا.

ومع التوسع السريع للتعليم الخاص، لا يبدو أن الرقابة قائمة بما يكفي. مدير تربية الباب يقرّ بأن إمكانيات المديرية محدودة وغير قادرة على متابعة الكم الكبير من المدارس الخاصة. يقول: “نحاول متابعة المرخص منها، لكن الواقع أكبر من قدراتنا”. وبين هذا الاعتراف وعشرات المدارس التي تعمل دون ترخيص، يتحول التعليم الخاص إلى سوق بلا ضوابط، يقرر مصير الأطفال وفق قدرة الأهالي على الدفع لا وفق معايير الجودة.

قبل عام 2011، كان التعليم في سوريا مجانيًا ومركزياً، وتواجد المدارس الخاصة كان محدودًا. لكن منذ عام 2019، حين حاول مجلس مدينة الباب إيقاف عمل بعض مؤسسات التعليم الخاص في قرار مفاجئ، بدأت ملامح الارتباك في إدارة هذا الملف تظهر بوضوح، لتتسع الفوضى عامًا بعد عام.

أما على مستوى المعايير الدولية، فتؤكد تقارير اليونيسف وأوتشا أن شمال غرب سوريا يعيش واحدة من أعلى درجات الضغط التعليمي في المنطقة، مع ملايين الأطفال خارج المدرسة ومدارس متضررة أو مهددة بالإغلاق.

ويرى أهالي مدينة الباب أن غياب المحاسبة للمدارس الخاصة غير المرخّصة، إلى جانب تقصير الجهات الرسمية في توفير الدعم اللوجستي والكوادر التعليمية للمدارس الحكومية، دفع قطاع التعليم إلى حافة الانهيار. وفي محاولة لفهم الصورة كاملة، تواصلت وكالة الصحافة السورية مع المجلس المحلي في المدينة للحصول على توضيحات رسمية حول واقع التعليم وما يواجهه من تحديات.

وقال الأستاذ عبد العزيز العيسى، مسؤول التعليم الأساسي في المجمع التربوي بمدينة الباب، في تصريح لوكالة الصحافة السورية إن التعليم في المنطقة عاش منذ عام 2017 حتى 2024 ظروفاً صعبة نتيجة موجات النزوح والتهجير المستمرة نحو الشمال السوري. وأوضح أن قصف النظام أدى إلى خروج عدد كبير من المدارس عن الخدمة، بعضها دُمِّر بالكامل، والبعض الآخر شُغل من جهات أخرى، إضافة إلى الازدياد الكبير في عدد السكان، مما تسبب في اكتظاظ الصفوف وخلق تحديات كبيرة للعملية التعليمية.

وأضاف العيسى أن المجمع التربوي عمل على مواجهة هذه التحديات بثلاث خطوات رئيسية: أولاً اعتماد نظام الفوجين في جميع المدارس للاستفادة القصوى من اليوم الدراسي، وثانياً توسيع المدارس عبر إضافة غرف صفية مسبقة الصنع (كرفانات) مجهزة بالكامل، وثالثاً إنشاء مدارس جديدة منها مبانٍ إسمنتية وأخرى مسبقة الصنع بدعم من الجمعيات والمنظمات الإنسانية، مع استمرار العمل على إعادة إعمار المدارس المدمرة وترميم المتضرر منها لإعادتها للخدمة.

وفيما يتعلق بالفاقد التعليمي لدى الطلاب العائدين من دول الجوار، أوضح العيسى أنه يتم إجراء اختبارات سبر لوضع كل طالب في المستوى المناسب، ليتم فرزهم إلى مستويين: مستوى (أ) للطلاب القادرين على الاندماج مباشرة مع أقرانهم، ومستوى (ب) للطلاب الذين يعانون من نقص واضح، خصوصاً في اللغة العربية، حيث يخضعون لبرنامج تعويضي متكامل داخل شعب صفية مخصصة لذلك.

وبيّن أن برامج التعويض لا تقتصر على الدوام الرسمي، بل تستمر بعد انتهاء اليوم الدراسي في بعض المدارس بالتعاون مع منظمات إنسانية، مع تجهيز غرف مسبقة الصنع لمتابعة الدروس. وذكر العيسى أن من المراكز المعتمدة حالياً: مركز علي الكرز، مركز البحتري، مركز عمر المختار، مركز عين الذهب، مركز تادف، ومركز قديران، وهي موزعة على قطاعات المدينة لضمان وصول الخدمات التعليمية إلى أكبر عدد ممكن من الطلاب.


وتابع الأستاذ عبد العزيز العيسى حديثه متطرقاً إلى موضوع المدارس الخاصة في مدينة الباب، موضحاً أن عددها يقارب 50 مدرسة، إلا أن الكشف الميداني بيّن أن أغلبها لا يحقق الحد الأدنى من المعايير الصحية ولا يوفر بيئة تعليمية سليمة. وقال إن المجمع التربوي وضع شروطاً واضحة للترخيص لضمان توفير بيئة تعليمية مقبولة، مضيفاً أن أربع مدارس فقط التزمت بالشروط واستوفت المعايير، وتم اعتمادها رسمياً وإدراجها على نظام القيد والتسجيل، كما تم اعتماد تسلسلها الدراسي.

وأشار العيسى إلى أن باب الترخيص لا يزال مفتوحاً لجميع المدارس الخاصة شريطة الالتزام بالشروط حتى في حدها الأدنى، مؤكداً أن متابعة جميع المدارس لا تزال مستمرة، وأن المدارس غير الملتزمة ستتم معاملتها أصولاً وفق القوانين والأنظمة المعتمدة في الجمهورية العربية السورية.

وفيما يتعلق باستقرار الكوادر التعليمية، أوضح العيسى أن جميع إضابير المعلمين العاملين في الملاك خلال الفترة الماضية تم رفعها إلى وزارة التربية بهدف دمجهم ومنحهم أرقاماً ذاتية وتثبيتهم. وبيّن أن الوزارة أكدت أن التثبيت سيشمل من يحمل إجازة جامعية تعليمية أو معهد متوسط اختصاص تعليمي، إضافة إلى حملة الشهادة الثانوية ممن تجاوزت خدمتهم 500 يوم.

وأضاف أن المعلمين والمدرسين الذين تم فصلهم سابقاً بسبب انضمامهم للثورة جرى استدعاؤهم لوضع أنفسهم تحت تصرف التربية، ويتم العمل حالياً على تعيينهم بحسب الشواغر المتاحة. كما أكد العيسى أن وزارة التربية تعمل على زيادة أجور المعلمين، مرجحاً أن تصدر هذه الزيادة مطلع عام 2026.

أما حول الرؤية المستقبلية للتعليم في مدينة الباب، فقد لخّصها العيسى بعدة محاور رئيسية، أبرزها: دعم المعلمين ورفع أجورهم وتأمين التدريب المستمر، تطوير البنية التحتية من خلال إنشاء مدارس جديدة وترميم المتضرر منها، تحديث المناهج وربطها بالعلوم التطبيقية، تعزيز الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب للحد من التسرب، ربط التعليم بسوق العمل، إضافة إلى دمج الوسائل الرقمية الحديثة مثل السبورات التفاعلية والتجهيزات التعليمية بهدف تأسيس نظام تعليم حديث ومستدام.

أمام هذا المشهد، يبدو أن التعليم في مدينة الباب يقف عند مفترق طرق حقيقي، يحتاج فيه إلى إعادة بناء شاملة تعيد الاعتبار للمدرسة والمعلم والطالب معاً. فإصلاح التعليم العام، وتنظيم التعليم الخاص، وتعويض الفاقد التعليمي، ليست خطوات إجرائية فقط، بل ضرورة لحماية جيل كامل عاش سنوات الحرب والنزوح. وبين تحديات البنية التحتية والأوضاع المعيشية وقلة الموارد، يبقى الأمل معقوداً على استمرار الجهود الرامية إلى توفير صفوف آمنة متوازنة، وتعلّم نوعي يليق بالأطفال وحقهم في المستقبل، بعيداً عن الاكتظاظ وضغوط الأقساط ومحدودية الإمكانات، وبما يمكّن المدينة من الوقوف مجدداً على أرض تعليمية صلبة ومستقرة.




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى