سوريامقالات الرأي

سوريا بين خيارين: مدنية تُبنى أم همجية تُعاد إنتاجها؟

سوريا بين خيارين: مدنية تُبنى أم همجية تُعاد إنتاجها؟

في لحظة تتكاثف فيها الأحداث وتتسارع، تبدو سوريا وكأنها تقف على حافة مفترق طرق خطير.

من السويداء إلى الساحل، ومن مناطق الإدارة الذاتية إلى مناطق الحكومة الانتقالية، تتزايد مؤشرات الاحتقان الشعبي، ويشتد التوتر، ويتصاعد الخطاب الانفعالي على حساب الحوار والعقل.

ففي الجنوب، الجموع التي شغلت ساحات الكرامة قبل سقوط النظام البائد، وبات صوتها عاليًا مع الثورة والثوار، أصبحت مرهونة لعصابة الهجري، والقلة القليلة تبحث عن هوية وكرامة وسط غياب الدولة وأركانها ومؤسساتها.

وفي الساحل، نشهد احتقانًا صامتًا بسبب الأحداث الأخيرة، وقد يتأجج في أي لحظة.

وفي مناطق الشمال الشرقي، تتزايد الأسئلة حول مشروع الإدارة الذاتية لـ”قسد” ومصيره في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية.

أما في الحكومة الحالية للشرع، فيرى البعض فيها الأمل والنموذج الجديد، بينما يتوجّس آخرون من سرعة التحولات وطبيعة البدائل.

وسط كل هذا، تبرز معادلة خطيرة: تصادُم شعبي يلوح في الأفق بين شارعين مختلفين في الرؤية والتجربة، وقد ينزلق هذا التصادم — لا قدّر الله — إلى ما هو أبعد من الخلاف السياسي أو الفكري، نحو الفوضى والانهيار.

وهنا يطرح السؤال نفسه، ببساطة وصرامة:

هل نريد أن نبني وطنًا على أسس المدنية، أم نعيد إنتاج الهمجية بشكل جديد؟

المدنية ليست رفاهًا، ولا ترفًا نظريًا.

المدنية تعني أن نعترف ببعضنا، أن نحترم اختلافاتنا، أن نحتكم للقانون لا للسلاح، وأن نبحث عن المشترك لا عن المغنم.

أما الهمجية، فهي رفض الآخر، استدعاء العنف، تقديس الصوت الواحد، وشيطنة كل من لا يشبهنا أو يعارضنا.

لقد غاب أو غُيّب الحوار الوطني الحقيقي:

لا طاولات نقاش بين مكونات المجتمع، لا حوارات شفافة بين ممثلي السلطات المختلفة، لا مبادرات صادقة لتقريب وجهات النظر، ولا حتى إعلام يفتح الباب أمام الرأي الآخر.

الكل يتكلم، ولا أحد يصغي.

الكل يدّعي الحقيقة، ولا أحد يمتلك الشجاعة للاعتراف بالخطأ.

والأخطر من كل ذلك، هو الغياب شبه الكامل للوعي الشعبي.

هناك تعبئة عاطفية، إعلامية، دينية، وحتى قبلية، تُدفع إلى الواجهة كلما أراد طرف أن يعزز سلطته أو يحشد جمهوره.

في الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى عقل جماعي ناضج يُرشد الخطى، لا إلى غرائز تُشعل الساحات.

نعم، هناك من يراهن على سلطة أحمد الشرع كمشروع وطني جامع، وينتظر منها نقلة نوعية بعد رفع العقوبات، وكثرة مذكرات التفاهم الموقّعة، والحديث عن الاستثمارات.

وهناك من يتخوّف من غموض الرؤية أو من محاولات التفرد.

لكن الحقيقة الأهم أن المستقبل لا يُبنى بشخص، أو فصيل، أو سلطة، بل بإجماع وطني، بحوار شجاع، بثقافة تتجاوز الخنادق والصناديق المغلقة.

لسنا بحاجة فقط إلى مشاريع اقتصادية، بل إلى مشروع وطني جامع يعيد تعريف الهوية السورية على أساس المواطنة، لا المحاور، ولا الولاءات.

لسنا بحاجة فقط إلى تفاهمات دولية، بل إلى تفاهم داخلي يبدأ من الأحياء والبلدات والمجالس المحلية، ليصل إلى الطاولة الوطنية الكبرى.

إننا اليوم أمام لحظة فاصلة:

إما أن نختار المدنية، الحوار، والعقل، وإما أن ننزلق نحو الهمجية، التصادم، والانفجار. لكل سوري الآن دور، ولكل فاعل مسؤولية، ولكل شارع خيار.

ولا يمكن لأي جهة أن تبني الوطن وحدها، أو أن تحتكر خلاصه.

المدنية لا تُمنح، بل تُنتزع بالإرادة، وتُبنى بالحوار. والهمجية لا تفرضها الظروف، بل يختارها من يرفض التفكير. ويبقى الجواب والعمل عندنا نحن، لا عند سوانا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى