
بعد كل ما مرّت به مدينة حلب من حرب وتدمير وتشويه عمراني وإنساني، وبعد أن طوينا صفحة النظام البائد الذي أهمل حياة الناس وكرامتهم، تبدأ اليوم مرحلة جديدة تتطلّب منا جميعاً مسؤولية عالية في إعادة بناء مدينتنا على أسس صحيحة.
لقد اعتدنا أن نربط أولوياتنا بالخدمات الأساسية مثل مياه الشرب، والكهرباء، والاتصالات، والمحروقات، والمواصلات، ومشاريع الإسكان، والصناعة، والتجارة، والاستثمار، وهذا طبيعي.
لكن هناك جانباً أساسياً لا يقلّ أهمية عمّا سبق، وهو الحق في التنفّس، والحديث هنا ليس شعرياً أو عاطفياً، بل واقعي تماماً.
المدينة التي لا تملك هواءً نقياً ومساحات خضراء كافية تُولّد جيلاً مريضاً ومتعباً، وتعاني من بيئة خانقة تؤثّر على صحة الناس النفسية والجسدية، وتزيد من انتشار أمراض القلب والرئتين والاكتئاب.
البيئة الصحية تبدأ من الشجرة، والممر الأخضر، والحديقة، تماماً كما تبدأ من كوب الماء النظيف.
اليوم، نسبة المساحات الخضراء في مدينة حلب لا تتجاوز 1.5٪ من مساحتها الحضرية، وهي نسبة ضعيفة جداً مقارنةً مع مدن قريبة مثل دمشق أو بيروت أو حتى مدن عالمية.
لكن المشكلة ليست فقط في قلّة عدد الحدائق، بل في إهمال الموجود منها، وغياب أي خطة حقيقية لتوسيعها أو ربطها بنظام الحياة اليومي للسكان.
نحن ندعو من خلال هذه الرسالة إلى التعامل مع موضوع البيئة والتشجير والمساحات الخضراء كجزء أساسي من عملية إعادة الإعمار، وليس كأمر ثانوي يأتي لاحقاً.
الحديقة ليست كمالية، بل هي مستشفى مفتوح، ومدرسة مجانية، ومكان راحة للأمهات والأطفال وكبار السن.
ندعو الجهات المسؤولة الجديدة في حلب، ومجالس المدن، ومكاتب التخطيط، أن تُدرج في كل مشروع جديد نسبة مخصصة للمساحات الخضراء، لا تقلّ عن ٤٠٪ في أي منشأة تعليمية أو تجارية أو سكنية، وأن تبدأ أولاً برعاية الموجود من الحدائق المهملة، وترميم ما تبقّى من أشجار المدينة.
كما ندعو إلى تخصيص حملات توعية مجتمعية تشارك فيها المدارس، والبلديات، والأهالي، والجمعيات، لتغيير ثقافة التعامل مع الممتلكات العامة، والاهتمام بالمكان كما لو كان بيتنا.
ونُذكّر أن الماء الذي يروي هذه المساحات أيضاً مهدّد، لأن المصدر الرئيسي لمياه حلب اليوم هو محطة الخفسة، التي تعتمد على نهر الفرات، والذي تتحكم فيه تركيا، وقد عانى السكان أكثر من مرة من قطع المياه أو تخفيضها.
لذلك لا بدّ من التفكير الجدّي في تأمين مصادر مائية مستدامة، خاصة لريّ الحدائق والمساحات العامة، مثل إعادة تدوير المياه الرمادية أو الاعتماد على الآبار الجوفية في حالات محددة.
التنفّس هو حقّ كما الشرب والكهرباء والمواصلات، وإذا أردنا لمدينتنا أن تكون قابلة للحياة، فنحن بحاجة إلى تخطيط عمراني جديد يضع البيئة والصحة العامة في قلب المشروع، وليس في هوامشه.
يا أهل حلب، هذه مدينتكم، لا تتركوها مدينةً إسمنتيةً متعبة، بلا شجر، بلا ظلّ، بلا نَفَس.
نريد حلب خضراء، نقيّة، قابلة للعيش والحياة والراحة، لا مدينة تُنهك أهلها كل يوم دون أن تمنحهم لحظة تنفّس.