الدين والسياسة في الشرق الأوسط من التوظيف السلطوي إلى مشروع وطني جامع
الدين والسياسة في الشرق الأوسط من التوظيف السلطوي إلى مشروع وطني جامع

شهدت منطقة الشرق الأوسط، كما مناطق عديدة في العالم، خلال العقود الماضية تصاعدًا واضحًا في استخدام الدين كأداة سياسية , لم يقتصر هذا الاستخدام على الخطاب التعبوي، بل تجاوز ذلك ليصبح جزءًا من استراتيجيات ممنهجة لدى قوى محلية وإقليمية، سواء بشكل معلن أو ضمني, في معظم هذه الحالات، لم يكن الهدف تعزيز القيم الدينية بقدر ما كان توظيف رمزية الدين ومكانته المجتمعية في سياق تعبئة الجماهير، شرعنة النفوذ، أو تبرير ممارسات سلطوية وعنيفة.
في السياق السوري، شكّل الواقع السوري الممتد منذ عام 2011 بيئة خصبة لهذا النوع من التوظيف, ظهرت أطراف متعددة تسعى لتقديم نفسها بوصفها ممثلًا شرعيًا للدين أو لطائفة معينة وجعلت هذا التمثيل يخدم توجهها السياسي ، مستخدمة خطابًا دينيًا لتعزيز شرعيتها السياسية أو العسكرية، وتوسيع نفوذها المحلي، في بعض الحالات، صدرت عن رموز دينية مواقف داعمة لتدخلات عسكرية خارجية، كما حدث عند تبرير الضربات الجوية الروسية، مما أثار جدلًا واسعًا حول العلاقة بين الدين ومواقع السلطة، وكيفية تفسير الدين لخدمة سلطة أو قوة معينة, داخليًا أفرز هذا السياق كيانات ومجموعات تتبنى شعارات دينية لكنها في واقع الأمر ترتبط بأجندات ضيقة أو مصالح لا وطنية ، أو بعضها سعى لتأسيس سلطات موازية لأنظمة استبدادية كانت قائمة ، أدّى ذلك إلى ترسيخ تفتت البنية الاجتماعية وربط الانتماء الديني بالولاء السياسي أو المناطقي أو فصله وخلق روابط ضيقة جديدة تعزز الفواصل بين ابناء الطيف المكون الواحد ، مما عمّق الانقسامات، وأضعف إمكانيات العيش المشترك، وزرع اصطفافات جديدة أيديولوجية ومناطقية وحتى دون ذلك .
هذه الظاهرة ليست محصورة بسوريا ففي العراق، أدى التوظيف السياسي للهويات الدينية بعد عام 2003 إلى تفكيك مؤسسات الدولة، وتأسيس نظام محاصصة طائفية هش، زاد من هشاشة الدولة وأضعف ثقة المواطنين بمفهوم المواطنة، وفي لبنان استمر نظام المحاصصة الطائفية الذي ترسخ بعد الحرب الأهلية، ليجعل من الطوائف وحدات سياسية قائمة بذاتها، تستخدم الدين في معظم الأحيان لتثبيت مواقعها ضمن مشهد سياسي مأزوم.
في مصر، عقب 2011، دخلت تيارات سياسية في منافسة حادة على الهيمنة من خلال الخطاب الديني، ما ولّد استقطابًا مجتمعيًا حادًا أعاق بناء توافق وطني جامع، أما في إيران فالنموذج السياسي نفسه يقوم على بنية دينية واضحة، حيث يوظَّف الدين ضمن هيكل السلطة، وتُصدر هذه المنظومة نفسها إلى الخارج من خلال دعم مجموعات عقائدية في عدة دول، مما ساهم في صبغ العديد من الصراعات الإقليمية بطابع طائفي.
هذه الأمثلة تبيّن أن استغلال الدين في السياسة لا يفضي إلى استقرار أو عدالة، بل يستخدم غالبًا كأداة لإدارة النزاع وفق منطق الاصطفاف، حيث تُختزل العقيدة في أدوات تبريرية للقوى المصارعة أو التشييد، النتيجة تكون في الغالب تآكلًا في مفهوم الدولة الوطنية، وزيادة في الشرخ المجتمعي، واستمرارًا لأزمات الحكم والانقسام.
الخروج من هذا المسار يمر عبر إعادة الاعتبار لفكرة الوطن بوصفه الإطار الجامع الذي يسمو على الهويات اللاوطنية، سواء كانت طائفية، أيديولوجية، أو مناطقية، لا يعني ذلك إنكار التعدد، بل إعادة تنظيمه ضمن مشروع وطني مشترك يقوم على العدالة، المساواة، والمواطنة، إن تجاوز الهويات المتنافرة لا يتم عبر تجاهلها، بل من خلال بناء عقد اجتماعي جديد يعيد توزيع السلطة والثقة بناءً على القيم الوطنية، لا الولاءات الرمزية.
تُظهر تجارب دول مثل رواندا وجنوب أفريقيا أن تجاوز الصراعات الهوياتية ليس ممكنًا فقط عبر تسويات سياسية، بل من خلال تفكيك أدوات الهيمنة الرمزية – ومنها الدين حين يُوظَّف سياسيًا – وبناء سرديات جامعة تتسع لجميع المكونات دون تمييز أو تهميش.
في هذا السياق، يمكن أن يشكل الخطاب الوطني، المدعوم بمبادرات ثقافية ومجتمعية واعية، نقطة انطلاق فعلية نحو فضاء سياسي واجتماعي جديد، فضاء لا يُقصي التدين كقيمة شخصية، بل يحميه من الاستغلال ويحرره من التوظيف السياسي، خطاب يعيد للدين مكانته كعنصر روحي وأخلاقي، لا كأداة نفوذ أو سيطرة، مثل هذا التحول ليس خيارًا فكريًا نخبويًا، بل شرط أساسي لبناء مجتمعات قادرة على الصمود، وتحقيق الاستقرار، والنهوض من الأزمات على أساس التعددية والمصلحة العامة، وليس على قاعدة توزيع النفوذ أو تكرار دورات الاستقطاب.