في لحظة حرجة من عمر البلاد، انفجر الجنوب السوري بما كان يختمر داخله منذ سنوات: غضب مؤجل، كرامة مجروحة، ومجتمع تُرك وحده طويلًا في مهب الانتظار. لم تكن السويداء ساحة مركزية في مشهد الحرب خلال العقد الماضي، لكنها كانت دائمًا مرآة لما يُخفيه النظام من هشاشة، وما تُراكمه الجغرافيا السورية من تشققات صامتة. واليوم، لم تعد تلك الشقوق صامتة.
ما بدأ في السويداء كحراكٍ احتجاجي سلمي، مطالب بالحقوق والخدمات، ومُصِر على النأي بالنفس عن الصراعات المسلحة، تحول في زمن قصير إلى صدام دموي، تتداخل فيه الحسابات العشائرية بالمظالم القديمة، ويتقدمه خطاب استئصالي خطير. ليست المسألة هنا مجرد اشتباك مسلح بين جماعات، بل لحظة انكشاف كامل لما وصل إليه التآكل البنيوي في الدولة والمجتمع، وكم أصبح اللعب على الهويات الصغيرة بديلًا عن معالجة القضايا الوطنية الكبرى.
السويداء، التي ظن البعض أنها ستبقى بمنأى عن الانفجار، باتت عنوانًا لفشل سياسي مركب: فشل في بناء عقد وطني جديد بعد الثورة، وفشل في احتواء المطالب المحلية قبل أن تتوحش، وفشل في مقاربة المنطقة كجزء من نسيج الوطن لا كملف أمني يجب تطويعه أو عزله. هذا الفشل نفسه هو الذي يفتح اليوم الباب أمام مشاريع لا تُقال بصوت عالٍ، لكنها تتحرك على الأرض بوضوح: تفكيك سوريا إلى مربعات أمنية، كل منها يتولى أمر نفسه، أو يفتح بواباته لمن يملك القوة والسلاح والمال.
ولا يمكن – من باب المسؤولية الأخلاقية والسياسية – تجاهل حجم الخطأ الذي ارتكبته بعض القيادات المحلية في السويداء حين تجاوزت كل الخطوط الحمراء الوطنية، وفتحت الباب أمام تدخلات خارجية – إسرائيلية تحديدًا – بذريعة الحماية. هذا السلوك، وإن كان نابعًا من شعور حقيقي بالتهميش والخوف، إلا أنه يطرح تساؤلات جوهرية عن حدود التمثيل، وعن الثمن السياسي لمثل هذه التحالفات الرمادية. فالوطنية لا تُختبر فقط برفض النظام، بل أيضًا برفض الاستقواء بأعداء الوطن تحت أي ذريعة. من طلب الحماية من الخارج، أيًا كان، لا يمكنه أن يدّعي الانتماء إلى مشروع وطني جامع.
ضمن هذا المشهد، فإن إسرائيل ليست بعيدة عما يجري، لا سياسيًا ولا أمنيًا. فالتحركات التي رُصدت خلال الأسابيع الماضية، والتدخلات غير المعلنة والمعلنة منها، تعيد فتح الحديث عن ممرات استراتيجية يُعاد ترتيبها بهدوء: من الجولان نحو عمق البادية، مرورًا بمناطق النفوذ التي يُعاد توزيعها كما لو أن الجغرافيا مجرد رقعة شطرنج. السؤال هنا ليس فقط عن مشروع “ممر داوود”، بل عن مجمل البنية التي تجعل من الداخل السوري بيئة جاهزة للتفكيك.
لكن الأخطر من التحركات الخارجية، هو التواطؤ الداخلي؛ حين تنسحب الدولة من المشهد تاركة فراغًا يُملأ بالتعبئة الطائفية، وحين تفشل المعارضة في بناء خطاب وطني جامع يطمئن الهامش، لا أن يهمشه مجددًا باسم الأكثرية. وحين يتصرف بعض الفاعلين المحليين وكأنهم خارج المعادلة السورية، أو فوقها، فإننا نكون أمام أزمة هوية حقيقية لا مجرد أزمة حكم. وما يحدث في السويداء اليوم قد يتحول إلى نموذج مُخيف لما قد يتكرر في مناطق أخرى إذا استمر التعامل مع المكونات كأدوات، لا كجزء أصيل من هوية الوطن.
لا حل لهذا الانزلاق إلا بمقاربة سياسية جديدة، تبدأ من الاعتراف بأن الشعارات المركزية – وحدة الأرض، سيادة الدولة، و”الشعب السوري واحد” – لم تعد كافية ما لم تتجسد في الواقع. آن الأوان لتكون حماية المجتمع المحلي جزءًا من مشروع وطني، لا مجرد رد فعل على التهديد. وآن الأوان أن يُنظر إلى السويداء، لا كـ “خصوصية درزية”، بل كجرس إنذار لكل من يظن أن النار لن تصل إلى أطراف ثوبه.
إن ما يجري في السويداء ليس أزمة طارئة بل عنوان مبكر لسوريا ما بعد الخراب. والسؤال: هل نملك بعد هذا كله رفاهية الانتظار، أم أننا على أعتاب تفكك معلن لا يحتاج لمؤتمرات دولية كي يُشرعن؟
شاهد أيضاً : شبكة الولاء والفساد: وزارة الرياضة تفصل لاعبًا وتُكرّم أدوات القمع