مقالات الرأي

السلم الأهلي لا يُبنى على جماجم الضحايا… العدالة أولًا، حتى لا نعود إلى مربع العنف.

السلم الأهلي والعدالة الانتقالية ملفان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، فكلٌّ منهما يُكمل الآخر ويعتمد عليه لتحقيق استقرار دائم وشامل. في السياق السوري، يتطلب فهم هذين المفهومين إدراكاً عميقاً لجذور النزاع، والتمييز بين ما هو شكلي وما هو جوهري في سعي السوريين نحو العدالة والمصالحة.

تجربتي خلال الثورة السورية كانت حافلة بالعمل مع منظمات محلية ودولية في مجالات المناصرة والتعامل مع النزاعات، وكان هذا العمل نظرياً وتطبيقياً في آنٍ معاً، حيث اختبرت واقع الصراع وتأثيراته على الأفراد والمجتمعات. من هذا المنطلق، لا يمكن الحديث عن السلم الأهلي بمعزل عن الأسباب البنيوية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، كما لا يمكن اختزاله في مبادرات شكلية أو مصالحة سطحية تتجاهل العدالة. فالسلم الأهلي لا يكون على حساب العدالة الانتقالية، بل ينبثق عنها ويُبنى عليها.

مفهوم السلم الأهلي في جوهره يتعلق بالحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ومنع تفكك النسيج المجتمعي، وهو يقوم على معالجة النزاعات ومنع تكرارها من خلال آليات مدنية ومجتمعية. أما بناء السلام، فهو عملية أوسع وأشمل، تتضمن إصلاح مؤسسات الدولة، وتعزيز سيادة القانون، وإعادة هيكلة المنظومات التي كانت سبباً مباشراً في النزاع. بناء السلام يتطلب وقتاً طويلاً ورؤية استراتيجية، بينما السلم الأهلي يتعامل مع اللحظة الراهنة ومتطلباتها للحفاظ على حدٍّ أدنى من الانسجام الاجتماعي.

في الحالة السورية، لا يمكن مقاربة الوصول إلى السلم الأهلي دون الاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت، ولا عبر التسامح مع القتلة، لأن ذلك يشجع على تكرار الجريمة. إن التساهل مع الجناة بدعوى المصالحة لا يفضي إلى سلام، بل إلى إعادة إنتاج العنف وشرعنته. ما حدث في سوريا لم يكن خلافاً سياسياً طبيعياً، بل قمعاً دموياً لمطالب مشروعة بالحرية والكرامة والعدالة. الرد بالرصاص على المظاهرات السلمية، واعتقال وتعذيب الآلاف، يشير إلى أن نظام الأسد استخدم عنف الدولة لكسر إرادة الناس، مدعوماً بمنظومات أمنية وعسكرية وقضائية متشابكة.

في هذه الحالة، لدينا جناة واضحون ومجنيٌّ عليهم لا يمكن تجاهل معاناتهم. ولذلك، فإن أي مشروع حقيقي للسلم الأهلي يجب أن يبدأ بتفكيك منظومات العنف والمحاسبة على الجرائم. من أعطى الأوامر، ومن نفّذها، ومن حرّض وسهّل ودعم، جميعهم يجب أن يخضعوا للمحاسبة وفق آليات العدالة الانتقالية التي تُعيد التوازن للمجتمع وتُرسي أسس التعايش المشترك.

الوصول إلى السلم الأهلي لا يعني التساهل، بل بناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع، وضمان حقوق جميع الأفراد دون تمييز، ضمن إطار قانوني عادل. هو أداة للوقاية من النزاع ومعالجته، وليس وسيلة للإفلات من العقاب. وإذا تحوّل إلى غطاء للإفراج عن المجرمين أو لحمايتهم من المحاكمة، فإنه يصبح أداة للفوضى، ويفقد شرعيته وأثره. في المجتمعات التي تشهد انتشاراً للسلاح وضعفاً في مؤسسات الدولة، كما هو الحال في سوريا، فإن تجاهل العدالة يقود إلى حروب أهلية جديدة، وربما إلى تقسيم المجتمع طائفياً وعرقياً.

العدالة الانتقالية في السياق السوري ليست مفهوماً نظرياً، بل ضرورة حتمية لتحقيق الاستقرار. لا يمكن أن يرى الضحية الجاني يتمتع بحريته ويُكافأ بالحصانة، كما حدث مع بعض الشخصيات المعروفة مثل فادي صقر، دون أن ينهار أي أمل بالثقة في مستقبل مشترك. المحاكمات العلنية لمجرمي الحرب، كما حدث في بعض الدول الأوروبية، تُشكل خطوة أساسية باتجاه إعادة الاعتبار للضحايا، وتُعيد ثقة الناس بالقانون والعدالة.

ما يحدث اليوم من مؤتمرات صورية وشعارات عن السلم الأهلي، لا يكفي، بل قد يتحوّل إلى استفزاز للضحايا وأهاليهم. المؤتمر الصحفي الأخير، على سبيل المثال، شكّل طعنة جديدة للسوريين، وقد يكون بداية لانفجار اجتماعي إذا استمر الخطاب الرسمي في تجاهل آلام الناس. التهدئة لا تكون بلجان وهمية أو مصالحة شكلية، بل بمحاسبة الجناة وفق معايير دولية، وإنشاء محكمة خاصة بمجرمي الحرب، تضمن للضحايا حقوقهم وتمنع تكرار الجرائم.

إن بناء السلام في سوريا يبدأ من السلم الأهلي الحقيقي، والذي لا يمكن له أن يتحقق دون عدالة انتقالية شاملة، تكشف الحقيقة، وتحاسب المجرمين، وتعوّض الضحايا، وتُعيد هيكلة الدولة. وحدها هذه الطريق قادرة على ضمان عدم العودة إلى مربع الدم والانقسام

شاهد أيضاً : انسحاب تدريجي للقوات الأميركية من سوريا ضمن مراجعة استراتيجية شاملة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى