عالمي

الثوار والسلطة: مأزق الانتقال من النظام القديم إلى الدولة الحديثة

بعد أكثر من عقد على انطلاقة الثورة السورية، وبعد ما يزيد عن مليون شهيد، ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، وملايين المهجّرين، وسنوات من القصف والتجويع والسجون والمنافي، وبعد سبعة أشهر من التحرير الذي ما زال منقوصاً…

كنا نظن أن لحظة سقوط النظام – أو ما تبقى منه – ستكون لحظة وضوح، انتصار، وربما بداية لبناء ما حلمنا به جميعاً: دولة عادلة، ديمقراطية، وطنية، تضم الجميع، وتحترم كرامة الإنسان.

لكننا اليوم، وبعد أن تحقق جزء من هذا الحلم، نجد أنفسنا أمام واقع مغاير، وربما أكثر إرباكاً.

ما نشهده اليوم من ممارسات السلطة الجديدة – في سوريا الجديدة التي طالما حلمنا بها – يثير تساؤلات حقيقية: هل خرجنا من الاستبداد لنقع في نسخة جديدة منه؟ هل سقط النظام فعلاً، أم أن بنيته الثقافية وأدواته وأساليبه أعادت إنتاج نفسها بأشكال وشعارات مختلفة؟

نشهد اليوم تهميشاً واضحاً للثوار الحقيقيين، واستئثاراً بالقرار من قبل دوائر ضيقة، وغموضاً في آليات التعيين والإدارة، وتفريغاً ممنهجاً لمفهوم الدولة لحساب مفاهيم بديلة تقوم على الولاء الشخصي أو الفصائلي أو المناطقي.

لم نعد نسمع حديثاً عن بناء المؤسسات أو العدالة الانتقالية أو تمكين المجالس المنتخبة أو دعم الكفاءات، بل باتنا أمام خطاب جديد من نوعه، يخلط بين النوايا الحسنة والشعبوية وبين التخوين والتصنيف: فلان كيوت، وذاك فلول، وذاك مؤيد، وذاك انفصالي، وآخر طائفي…

وكأن الثورة كانت مسابقة أخلاقية أو حفلاً للتقييم، لا حركة تحرر شعبية واسعة شارك فيها ملايين الناس بطرق مختلفة.

تسميات طائفية، نزعات قومية حادة، تغلغل مفاهيم إقصائية، وغياب أي رؤية وطنية شاملة، كلها مقدمات لشرخ مجتمعي جديد لا يقل خطورة عمّا شهدناه في بدايات الثورة، وربما يمهد لصراع داخلي جديد، هذه المرة بين شركاء النضال.

في هذا السياق، نحن – كمن بقوا على النهج الوطني الوسطي – نواجه سؤالاً وجودياً: هل سنُعدّ الآن معارضة للسلطة الجديدة لمجرد تمسكنا بمبادئنا الأولى؟ هل نُحاكم على مواقفنا القديمة، أو نُقصى بسبب آرائنا، أو يُعاد تصنيفنا خارج الفلك الجديد لأننا رفضنا الاصطفاف الأعمى؟ هل يُطلب منا أن نصمت كي لا نُفسد الانتصار؟

نعم، لا يمكن إنكار بعض الإنجازات. زال رأس النظام من هذه المناطق، توقفت الطائرات، فتحت الطرقات، عاد بعض الناس إلى منازلهم، وتكلم السوري أخيراً دون خوف من الاعتقال السياسي.

لكن لا يمكن أيضاً إنكار أن عشرات آلاف العائلات ما زالت تعاني، وأن السلطة القائمة تتصرف خارج إطار المساءلة، وأن مشروع الدولة الحقيقية ما يزال غائباً، أو مؤجلاً إلى أجل غير مسمى.

إننا لا نقف ضد دولة، بل ضد استبداد جديد.

لا نعارض سلطة، بل نطالبها بأن تكون سلطة قانون لا سلطة شعارات. نرفض أن نُستدرج إلى صراع جديد يعيد إنتاج المظلومية والانقسام، أو أن نصبح شهود زور على انهيار حلم كنا من أوائل من حملوه.

لسنا في موقع ترف، ولسنا هواة جدل سياسي.

نحن أبناء هذه الثورة، ضحاياها وراسمي ملامحها الأوائل، ولا نستطيع التراجع عن القيم التي نادينا بها يوماً: حرية، عدالة، كرامة، مواطنة، محاسبة، مشاركة.

إذا كان التمسك بهذه المبادئ يُعدّ اليوم خروجاً عن الصف، فليكن. لن نصمت، ولن نغادر، ولن ننزلق إلى العدم.

سنبقى، نراقب، ننتقد، نشارك، ونتمسك بالحلم إلى أن تتحول السلطة إلى دولة، والقوة إلى مؤسسات، والواقع إلى وطن نستحقه جميعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى