سوريا

أزمة الإيجارات وغلاء المعيشة في سوريا

تشهد سوريا اليوم حالة غير مسبوقة من غلاء الأسعار وجشع بعض التجار وأصحاب العقارات، في ظل أوضاع معيشية صعبة يعيشها المقيمون والمهجّرون والنازحون وأصحاب الدخل المحدود. ويعاني هؤلاء من صعوبة إيجاد منزل لائق أو دفع الإيجارات التي ترتفع سنويًا، وسط غياب شبه تام لدور الدولة في تنظيم السوق العقاري أو وضع ضوابط تحدد القيمة الحقيقية للعقارات والإيجارات وفق تصنيف المناطق ومستوى الخدمات.

ومن أبرز مظاهر الأزمة وجود عدد كبير من المنازل والعقارات المغلقة والخالية، في وقت تبحث فيه مئات الأسر عن مأوى بأسعار معقولة.
هذه الفجوة بين العرض والطلب خلقت سوقًا مشوّهة تقوم على المضاربات والطمع بدل الحاجة والاستخدام، مما أدى إلى ارتفاع غير مبرر في أسعار الإيجارات والمبيعات على حد سواء.

ويقوم الحل المقترح لمعالجة هذه الأزمة على مبدأ بسيط وعملي، يتمثل في فرض رسوم سنوية رمزية على العقارات السكنية الفارغة التي لا تُؤجَّر ولا تُستخدم، وذلك لتحفيز أصحابها على تأجيرها أو بيعها أو تطويرها بدل تركها مغلقة دون فائدة.
هذه الخطوة ستؤدي بطبيعتها إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية المتاحة للإيجار، وبالتالي انخفاض الأسعار تدريجيًا وعودة السوق إلى توازنه. كما ستوفّر موردًا ماليًا للدولة يمكن توجيهه نحو تطوير الأحياء والبنى التحتية وخلق فرص عمل جديدة للشباب.

ولضمان حقوق المالكين وتشجيعهم على التأجير دون خوف من الخسارة أو الضرر، يمكن إنشاء صندوق وطني باسم “صندوق الضمان والترميم العقاري” يتكفّل بتغطية تكاليف الإصلاح أو الأضرار الناتجة بعد انتهاء عقود الإيجار.
وبذلك يشعر المالك بالأمان والثقة في تأجير عقاره، ويحصل المستأجر على سكن ميسر دون الحاجة إلى دفع تأمينات مالية مرتفعة، وتضمن الدولة علاقة تعاقدية متوازنة تحفظ حقوق الطرفين.

هذا النظام لا يقوم على الإجبار، بل على مبدأ التحفيز والمسؤولية المشتركة؛ فصاحب العقار يبقى حرًا في قراره، لكن إن اختار تركه مغلقًا فعليه تحمّل الرسوم المترتبة. وبذلك يصبح السوق أكثر عدالة وواقعية مع مرور الوقت، إذ لن يشتري أحد منزلًا إلا لغرض السكن أو الاستثمار الفعلي، ما يحد من المضاربة ويضبط أسعار العقارات في البلاد.

وخلال زيارتي الميدانية إلى سوريا مؤخرًا، لاحظتُ بشكل مباشر حجم المعاناة التي يعيشها المواطنون، سواء في الأسواق أو وسائل النقل أو الإيجارات. ومن خلال دراسة تقريبية لتكلفة المعيشة لعائلة سورية صغيرة مكوّنة من زوج وزوجة وطفلين يسكنون في منزل صغير بإيجار معتدل، تبيّن أن متوسط الإنفاق الشهري يبلغ نحو 5.6 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي 550 دولارًا أمريكيًا. وتشمل هذه النفقات تكاليف الطعام والخدمات والطاقة والنقل والصحة والتعليم والملابس والإيجار، وهو ما يكشف عن فجوة كبيرة بين الدخل الحقيقي ومستوى المعيشة المطلوب لتأمين حياة كريمة.

وتُعدّ هذه الأرقام الحد الأدنى لمعيشة عائلة صغيرة، ولا تشمل الأسر الأكبر عددًا أو من لديهم طلاب جامعات أو أمراض مزمنة أو التزامات اجتماعية إضافية، ما يعني أن الواقع أصعب بكثير من الإحصاءات النظرية.

ومن جهة أخرى، فإن الحوادث الأخيرة الناتجة عن انهيار بعض الأبنية وعمليات الترميم العشوائية تفتح باب التساؤلات حول خطط الترميم والتدعيم، ودور المكاتب الهندسية والمقاولين ونقابة المهندسين في الرقابة والإشراف.
ومن الضروري تقييم المشاريع التي استُخدم فيها حديد معاد تدويره، ووقف أي أعمال ترميم يقوم بها الأهالي دون إشراف هندسي معتمد، حفاظًا على الأرواح والممتلكات وضمانًا للسلامة العامة.

إن الحلول الاقتصادية والعمرانية لا تنفصل عن بعضها؛ فتنظيم سوق العقارات يخفف الضغط الاجتماعي، والرقابة الهندسية تضمن سلامة البنية التحتية، والسياسات المتوازنة تحفّز التنمية المستدامة.
والمطلوب اليوم هو رؤية وطنية شجاعة تعيد التوازن بين مصلحة المواطن وحق المالك، وتضع مبدأ «المنزل المأهول خير من المنزل المغلق» قاعدة اقتصادية وإنسانية لبناء سوريا الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى