الإعلان الدستوري الجديد: شرعنة الاستبداد بواجهة قانونية

يُقال أن “الدساتير توضع لمنع الاستبداد، لا لتبريره”، لكن يبدو أن الإعلان الدستوري الجديد قرر كسر هذه القاعدة تمامًا. فمنذ اللحظة الأولى، يصرّح بأن “مبدأ الفصل بين السلطات” هو أحد أسس الحكم (المادة 2)، لكنه في الوقت نفسه يمنح الرئيس صلاحيات تجعل منه سلطة مطلقة فوق أي مساءلة أو محاسبة. وكأن واضعي هذا الدستور أرادوا أن يمنحوا الرئيس صكًّا على بياض، ليحكم دون أي قيد سوى إرادته الشخصية.

رئيسٌ فوق الجميع: تجميع السلطات في يد واحدة
إذا أردنا فهم حقيقة توزيع السلطات في هذا الدستور، علينا أن ننظر إلى الصلاحيات التي منحها للرئيس، والتي تجعله أشبه بإمبراطور أكثر منه رئيسًا لدولة حديثة.
الهيمنة العسكرية (المادة 32): الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والمسؤول عن الأمن الوطني وسلامة البلاد، أي أنه يحتكر القوة العسكرية بيده. هذا يعني أن أي تحرك عسكري، داخليًا أو خارجيًا، يتم بقرار فردي منه دون الحاجة إلى رقابة أو موافقة برلمانية، مما يفتح الباب أمام عسكرة الدولة كأداة للحكم المطلق.
السيطرة التنفيذية (المادة 31): الرئيس يختار الوزراء، يدير الحكومة، يشرف على تنفيذ القوانين، ويضع السياسات العامة للدولة. بعبارة أوضح، هو الحاكم الفعلي دون منازع، بينما تبدو الحكومة مجرد أداة لتنفيذ أوامره. حتى فكرة “التكنوقراط” التي يتم الترويج لها كغطاء، لا تغير شيئًا من حقيقة أن الرئيس هو صاحب القرار النهائي في كل الملفات.

إعلان الطوارئ (المادة 41): يستطيع الرئيس فرض حالة الطوارئ بموافقة “مجلس الأمن القومي”، وهو المجلس الذي يعين أعضاؤه بنفسه! أي أن موافقة الطوارئ هي مجرد إجراء شكلي، مما يمنحه صلاحيات قمع غير محدودة تحت ذريعة “الضرورة الأمنية”، وهو السيناريو الذي رأيناه يتكرر في تاريخ الأنظمة الديكتاتورية، حيث تتحول حالة الطوارئ إلى حالة دائمة، وتصبح “الحرب على الإرهاب” أو “حماية الاستقرار” ذريعةً لإلغاء أي شكل من أشكال الحريات.

السلطة التشريعية: مجرد تابع للرئيس
قد يتساءل البعض: ماذا عن البرلمان؟ أليس دوره التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية؟ الإجابة الصادمة أن الإعلان الدستوري جعل من البرلمان هيئة شكلية بيد الرئيس، عبر الإجراءات التالية:
حق الاعتراض (المادة 39): الرئيس يستطيع رفض أي قانون يصدره البرلمان، ولا يُكسر فيتو الرئيس إلا بأغلبية الثلثين. ولكن كيف يمكن تحقيق هذه الأغلبية؟

تشكيل البرلمان (المادة 24): ثلثا أعضاء البرلمان يتم اختيارهم من قبل لجنة عليا يشكلها الرئيس نفسه، أما الثلث المتبقي فيتم تعيينه بقرار مباشر منه! أي أن المجلس التشريعي هو مجرد امتداد لإرادته، مما يعني أن أي “معارضة برلمانية” ستكون ديكورًا لا أكثر.

ببساطة، الرئيس يكتب القوانين، والبرلمان “يصفّق”، ثم الرئيس يقرر إذا كانت هذه القوانين تناسبه أم لا!
القضاء المستقل؟ لا مكان له هنا
المحكمة الدستورية التي يُفترض بها أن تراقب دستورية القوانين وتضمن استقلال القضاء، أصبحت بدورها أداةً بيد السلطة التنفيذية:
السيطرة على القضاء (المادة 47): الرئيس هو من يعين جميع قضاة المحكمة الدستورية، ما يعني أن أي طعن أو مراجعة قانونية سيكون محكومًا سلفًا بولاء القضاة لمن عيّنهم. وعليه، حتى لو كان هناك انتهاك دستوري صارخ، فإن المحكمة الدستورية لن تكون أكثر من ختم شرعي على قرارات السلطة.

هذا ليس مجرد “إصلاح قضائي”، بل إلغاءٌ فعلي لاستقلال القضاء، وتحويله إلى ملحق بالرئاسة.
الاستقرار أم إعادة تدوير الديكتاتورية؟
أنصار الإعلان الدستوري قد يبررون هذه الصلاحيات بأنها ضرورية لضمان “الاستقرار في المرحلة الانتقالية”، لكن في الواقع، هذه الحجة ليست سوى إعادة إنتاج لمنطق الأنظمة الاستبدادية التي تعتبر أي توزيع حقيقي للسلطات تهديدًا لاستقرارها.
التجارب السابقة علمتنا أن إعطاء السلطة المطلقة لشخص واحد تحت شعار “الاستقرار” لا يؤدي إلا إلى نتائج كارثية، فكيف يمكن الوثوق بأن هذا النموذج لن يتحول إلى نسخة جديدة من الديكتاتورية؟
السؤال هنا ليس ما إذا كان الرئيس سيستخدم هذه السلطات بطريقة استبدادية، بل لماذا يُمنحها أصلًا؟ هل يمكن لأي شخص يتمتع بهذا النفوذ الواسع أن يكون خاضعًا لأي محاسبة؟ أم أننا أمام نسخة جديدة من الاستبداد، ولكن بواجهة قانونية أكثر أناقة؟
هل هو دستور أم عقد إذعان؟
في النهاية، هذا الإعلان ليس مجرد وثيقة قانونية، بل عقد إذعان بين الحاكم والشعب، حيث يمنح الأول كل الصلاحيات، بينما يُطلب من الثاني الطاعة والقبول دون نقاش.
دستور لا يضع أسسًا حقيقية للمحاسبة والفصل بين السلطات، هو مجرد تفويض مفتوح للاستبداد، مهما كان مظهره جذابًا على الورق. والسؤال الذي يجب أن يُطرح: هل نحن بصدد مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية، أم أننا نشهد ولادة نظام شمولي جديد؟
شاهد أيضاً مرحلة تسيير الأعمال والتأسيس لسلطة دائمة: توضيح حول ما يجري