سوريامقالات الرأي

ازدواجية المعايير في التعامل مع الرموز: لماذا تُحظر راية التوحيد بينما تُرفع غيرها بحرية؟

الرموز والرايات كانت دائمًا وسيلة تعبير عن الهوية، سواء كانت دينية، وطنية، أو ثقافية. في المجتمعات المتنوعة مثل سوريا، حيث تشكلت الفسيفساء الاجتماعية عبر مئات السنين، نجد أن لكل فئة رموزها وراياتها التي تعتز بها . لكن في السنوات الأخيرة، خاصة في سوريا والمنطقة العربية، أصبح هناك ازدواجية غريبة في التعامل مع بعض الرموز. فبينما يتم السماح برفع أعلام متعددة تمثل قوميات، طوائف، أو حتى أيديولوجيات سياسية، نجد أن راية التوحيد البيضاء، التي تحمل عبارة “لا إله إلا الله”، تُعامل وكأنها تهديد خطير يجب منعه بأي ثمن. لماذا هذا التمييز؟ ولماذا يخشى البعض من هذه الراية بينما يتقبلون غيرها دون مشكلة؟

المجتمع: بين التنوع والانقسام

نحن في المجتمع ألوان مختلفة، كل منا له مرجعيته الفكرية والعقائدية، ولكن في المواطنة نحن سوريون، أو على الأقل هذا ما يجب أن يكون عليه الوضع الطبيعي.
اليوم، أصبحت الرموز وسيلة لاستفزاز الآخر بدلاً من أن تكون مجرد تعبير عن الانتماء. في أي نقاش سياسي أو ديني، تجد أن الرايات تتحول إلى أسلحة رمزية في المعارك الأيديولوجية، حتى وصل الأمر بالبعض إلى كره كل ما يتعلق بهويته الوطنية أو الدينية بسبب التوظيف السياسي لهذه الرموز. كثيرون من السوريين باتوا يقولون: “لم نعد نعرف كيف نناقش أي موضوع دون أن يتحول الأمر إلى تبادل للاتهامات”، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير على انهيار أسس الحوار المجتمعي.
هل كنا فعلًا نعيش سويًا بسلام؟ أم أن هذه الخلافات كانت كامنة وتم تفجيرها عند أول فرصة؟

الفرق بين الرموز الرسمية والاحتفالات الخاصة

هناك مبدأ عام في كل دول العالم: المؤسسات الرسمية يجب أن تمثل الدولة، وليس أي فئة أو طائفة بعينها. من هنا، من المنطقي أن تكون المقرات الحكومية ترفع العلم الوطني فقط، وليس أي راية أخرى. في فرنسا، على سبيل المثال، لا يُسمح برفع أعلام إقليمية على المؤسسات الحكومية رغم أن البلاد تضم مناطق ذات خصوصيات ثقافية قوية مثل كورسيكا أو بريتاني.
لكن هذا لا يعني أن هذه الرايات تُمنع تمامًا في الفضاء العام. في الاحتفالات الخاصة، المسيرات، الفعاليات الثقافية أو الدينية، من الطبيعي أن ترى أعلامًا تعبر عن هويات معينة دون أن يكون ذلك محل جدل.
إذا كان هذا هو المبدأ، فلماذا نرى ازدواجية في تطبيقه؟ لماذا يُسمح لبعض الفئات برفع أعلامها ورموزها في احتفالاتها الخاصة بينما يتم منع راية التوحيد البيضاء؟ إذا كان المعيار هو “عدم استفزاز الآخرين”، فمن المنطقي أن يُطبّق هذا على الجميع، وليس فقط على طرف دون آخر.

كيف تم تحويل الرموز إلى أدوات سياسية؟

لا شك أن جزءًا كبيرًا من المشكلة يعود إلى السياق السياسي الذي تم فيه استخدام بعض الرموز. راية “لا إله إلا الله” البيضاء، التي كانت لقرون طويلة رمزًا إسلاميًا عامًا، تحولت في وعي الكثيرين إلى شعار لجماعات متطرفة بسبب استخدامها من عدة تنظيمات صُنفت على لوائح الإرهاب لاحقاً . هذا لا يعني أن الراية نفسها إشكالية، لكن ارتباطها بسياقات معينة جعل البعض ينظر إليها بالخوف أو الرفض التلقائي.
لكن هذه الظاهرة ليست جديدة أو مقتصرة على الإسلام. على سبيل المثال، الصليب نفسه كان رمزًا دينيًا قبل أن يتم توظيفه في الحروب الصليبية، وبعدها أعيد اعتباره رمزًا مقدسًا عند المسيحيين دون أن يكون مرتبطًا بالصراعات التاريخية. لماذا لا يتم التعامل مع راية التوحيد بنفس الطريقة؟ لماذا لا يتم تفكيك الارتباط القسري بين الراية وبين الجماعات المتطرفة، كما حدث مع الصليب وغيره من الرموز؟

الخوف من الرمز أم ممن يرفعه؟

السؤال الأهم هنا: هل المشكلة في الراية نفسها، أم فيمن يرفعها والطريقة التي يستخدمها بها؟
لو افترضنا أن راية التوحيد تُرفع في مناسبات دينية خالصة، مثل صلاة العيد أو التجمعات الإسلامية، فمن الصعب أن يعترض عليها أحد. لكن الواقع أن أغلب الحالات التي تُرفع فيها هذه الراية اليوم تأتي في سياقات مشحونة سياسيًا، حيث يتم استخدامها ليس فقط كرمز ديني، بل أيضًا كوسيلة لإثبات موقف سياسي معين أو كأداة لتحدي الطرف الآخر كرمز للتجييش، سواء كان الآخر دينيًا، طائفيًا، أو حتى سياسيًا.
وبالتالي، أصبح لدى الكثيرين رد فعل فوري بالخوف والرفض عند رؤية هذه الراية، ليس بسبب محتواها، ولكن بسبب استخدامها في السنوات الأخيرة كرمز لمشاريع متطرفة.
هذا لا ينطبق فقط على راية التوحيد، بل على كل الرموز الأخرى. الفرق هو أن بعض الرموز تحظى بقبول أوسع بسبب النفوذ السياسي أو الإعلامي لمجموعات معينة، بينما تُرفض رموز أخرى لأنها ارتبطت في وعي الناس بمواقف معينة دون النظر إلى جوهرها.
هذا لا يعني أن الحل هو منع الراية تمامًا، بل إعادة تأطير استخدامها بشكل لا يُشعر الآخرين بالتهديد. المشكلة ليست في الرمز نفسه، بل فيمن يستخدمه، وكيف يستخدمه، وما الرسالة التي يحاول إيصالها من خلاله.

هل الوطنية تُقاس بالرايات؟

هناك جدل آخر يطفو إلى السطح في كل مناسبة: هل يجب على كل شخص أن يرفع علم الثورة أو أي علم آخر ليثبت وطنيته؟
البعض يرى أن رفع علم الثورة هو معيار للوطنية، بينما يرى آخرون أن الوطنية لا يجب أن تُختزل في رمز معين. هذه الثنائية نفسها تُستخدم كسلاح في الصراع، حيث يتم تخوين كل من لا يرفع علمًا معينًا، بينما يتم التغاضي عن ممارسات خاطئة يقوم بها من يرفع هذا العلم.
المثير في الأمر أن هذه المسألة لم تكن بنفس الحساسية في الماضي. في كثير من الدول، يمكن للناس أن يرفعوا أعلامًا مختلفة في مناسباتهم الخاصة دون أن يكون ذلك مؤشرًا على ولائهم أو عدمه. في كردستان العراق، على سبيل المثال، يتم رفع العلم العراقي إلى جانب العلم الكردي في المؤسسات الرسمية، وهو ما يسبب أزمة تفاوت آراء بين مؤيد ومعارض ومحايد.
فهل سيكون هناك تفاهم مشابه في الحالة السورية؟

هل يمكن تجاوز الصراعات الرمزية؟

المجتمعات التي تسعى إلى بناء مستقبل مستقر لا يمكنها أن تستمر في استخدام الرموز كأدوات صراع وإقصاء. يجب أن يكون هناك حوار جاد حول كيفية التعامل مع الرموز المختلفة بطريقة عادلة ومتوازنة. إذا كانت هناك رايات تُمنع بسبب ارتباطها بجماعات معينة، فيجب تطبيق نفس المعيار على جميع الرموز الأخرى التي ارتبطت بصراعات سياسية أو أيديولوجية.
الأهم من ذلك، يجب أن ندرك أن الوحدة الوطنية لا تُبنى على فرض رموز معينة أو إقصاء أخرى، بل على بناء تفاهم حقيقي بين المكونات المختلفة. عندما تتحول الرموز إلى أدوات حرب، فإنها تفقد معناها الأصلي، وتصبح مجرد شعارات فارغة تُستخدم في صراعات لا نهاية لها.
في النهاية، المشكلة ليست في الرايات بحد ذاتها، بل في العقلية التي تتعامل مع الرموز بطريقة انتقائية تخدم مصالح معينة. يجب أن نتساءل: هل نريد مجتمعات تقبل التنوع الحقيقي أم مجرد شعارات فارغة عن التسامح والتعددية؟
و هل نحن مستعدون لتجاوز الخوف من الرموز، والبدء في البحث عن قواسم مشتركة حقيقية؟ أم أننا سنستمر في حرب الرايات إلى ما لا نهاية؟

شاهد أيضاً وزير التربية والتعليم يكشف عن خطوات تطوير التعليم في سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى