صوت الألم في منبج.. مدينة تبكي بلا عزاء

إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لنشعر ببالغ الأسى لما يحدث في مدينة منبج. لا أشك أنكم تشاركونني هذا الحزن العميق على ما تعانيه هذه المدينة، التي تستقر على الضفة الغربية لنهر الفرات، وتعكس في وضعها الحالي تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي في سوريا.
كان من المتوقع أن تسهم خريطة الطريق الأمريكية – التركية، التي تم الاتفاق عليها عام 2018، في رسم مسار أكثر وضوحًا لمستقبل منبج، إلا أن الواقع أثبت أن هذا الاتفاق لم يكن كافيًا لحسم مصير المدينة. فالصراع حولها يبدو أعقد وأعمق من تلك التفاهمات الثنائية. تعاقبت الإدارات الأمريكية، من ترامب إلى بايدن، ثم عاد ترامب مرة أخرى، ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحاول التوازن بين حليفها في الناتو، تركيا، وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعد شريكها الأساسي في محاربة تنظيم داعش.
في الثامن من ديسمبر 2024، أطلقت فصائل من الجيش الوطني عملية عسكرية أسمتها “فجر الحرية”، تمكنت خلالها من السيطرة على مدينة منبج بعد انسحاب ميليشيات قسد منها. جاء ذلك بالتزامن مع عملية “ردع العدوان” التي نفذتها هيئة تحرير الشام، وانتهت بالسيطرة على دمشق وسقوط نظام بشار الأسد.
محطات منبج في دائرة الصراع
تحررت منبج من سيطرة نظام الأسد عام 2012، وأدارها أبناؤها الأحرار بشكل مدني، محافظين على مؤسساتها وخدماتها. لكن سرعان ما وجدت المدينة نفسها في قبضة تنظيم داعش، الذي شنّ حربًا شرسة على ثوارها، فقتل الكثير منهم، وشرّد البقية نحو الشمال السوري. لاحقًا، تدخلت قوات قسد، مدعومة من الولايات المتحدة والتحالف الدولي، لطرد داعش والسيطرة على المدينة.
تعاقب هذه القوى على منبج، من داعش إلى قسد، ألقى بظلاله الثقيلة على المدينة، تاركًا إياها في حالة مزرية، حيث بات مصير أهلها مرهونًا بسلطة الأمر الواقع التي فرضتها هذه التنظيمات، مما أدى إلى استنزاف مواردها البشرية والمادية لصالح أجنداتها الخاصة.
خيبة الأمل بعد التحرير
عندما اندحرت ميليشيات قسد، استبشر أهالي منبج خيرًا بقدوم الجيش الوطني، متطلعين إلى مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار. لكن سرعان ما تبددت آمالهم، إذ تفاجأوا بسلوك بعض الفصائل التي رفعت راية الثورة والحرية، بينما مارست النهب وسلبت مؤسسات المدينة، معتبرةً إياها غنائم حرب.
لم تقتصر الانتهاكات على الاستيلاء على الممتلكات العامة، بل شملت أيضًا المواد الغذائية والوقود وحتى السيارات والمعدات، في مشهد عكس استغلالًا واضحًا لمقدرات المدينة وأهلها، وجعلها ساحة للمكاسب الفصائلية بدلاً من أن تكون منطلقًا لإرساء الأمن والعدالة.
كثيرون يوجهون الانتقادات للإدارة المدنية في منبج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا حق مكفول للجميع، لكن من الإنصاف أيضًا تسليط الضوء على الجهود والمواقف المشرفة التي قامت بها هذه الإدارة، رغم التحديات الكبيرة، والموارد المحدودة المتاحة لها. فقد واجهت أزمة شعب منبج، الذي عانى الظلم والقهر والفقر، بروح المسؤولية، والتزمت بما يمليه عليها الواجب، رغم الظروف الصعبة.
أحد أبرز مواقف الإدارة هو تحمل المسؤولية، حيث لم تتنصل من دورها في التصدي للقضايا الخدمية التي تمس حياة السكان بشكل مباشر، إضافة إلى قضايا أخرى ذات أهمية ثانوية، لكنها لم تغفلها، بل تعاملت معها بفاعلية وإصرار. كما قامت بمخاطبة الجهات والمنظمات الفاعلة، وإبلاغها بالاحتياجات الملحة للمدينة في مختلف المجالات، إدراكًا لحجم المعاناة التي يعيشها أهل منبج.
ومن المواقف الجديرة بالإشادة أيضًا رفض بيع المواقف، حيث لم تسمح الإدارة لمن يسعون إلى تحقيق مكاسب شخصية باستغلال الوضع القائم لتحقيق طموحاتهم. كما تمسكت بموقفها الرافض لأي مساومات سياسية أو محاولات لفرض أجندات خارجية على حساب مصلحة السكان، ما جعلها عرضة لضغوط عديدة.
الإدارة المدنية في منبج ليست مجرد سلطة أمر واقع، بل هي إدارة تسعى إلى التحرر من القيود التي فرضتها القوى المختلفة على أهل المدينة بالقوة. هدفها هو النهوض بمنبج، وتأمين حياة كريمة لأهلها، وتحسين قطاع التعليم، وبناء مؤسسات تقدم الخدمات للجميع دون تمييز أو محسوبية، مع مكافحة الفساد بكافة أشكاله. ومع ذلك، هناك من يحاول تصويرها كسلطة أمر واقع، رغم أن الشعب السوري أثبت قدرته على إسقاط أكبر سلطة قمعية في البلاد، ورفض أي محاولات لاستبدالها بسلطات أخرى تقوم على المصالح الفئوية والعشائرية والحزبية.
ما قامت به الإدارة المدنية هو محاولة لإيجاد حلول واقعية تخدم المصلحة العامة، بينما تسعى بعض القوى الأخرى إلى تحقيق المكاسب عبر استغلال انتماءاتها العشائرية والطائفية والحزبية. وبينما قد ينجح البعض في بناء نموذج إيجابي يصبح قدوة، هناك آخرون قد يسقطون في فخ المصالح الشخصية، ليصبحوا عبرة لمن يعتبر، ويبقى مصيرهم في النهاية رهينًا بإرادة الشعب وحكمه على أفعالهم.
أحجية التنسيق:
بعد دخول الفصائل العسكرية إلى مدينة منبج، بقي عدد كبير من أبناء المدينة الذين كانوا ضمن صفوف ميليشيات قسد دون أي فرص لتسوية أوضاعهم. لم تُفتح لهم مراكز تسوية، ما دفع بعضهم للانضمام إلى فصائل الجيش الوطني، ليُمنحوا صفة “منسق” ضمن سياسة الباب الدوار، حيث يستطيع أي شخص الانضمام إلى الثورة فجأة، ليصبح في مأمن، بل ويتحدث عن نضاله أكثر من الثوار الحقيقيين. هذه الفوضى في التنسيق أفقدت السلطة الأمنية الهشة في المدينة تماسكها، وزعزعت ثقة الناس في الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطني، وحوّلت التحرير إلى مجرد مرحلة انتقالية غير محسومة، وسط مخاوف من خلايا تنظيم قسد النائمة.
التنسيق بهذا الشكل كان مرفوضًا تمامًا من قبل أهل منبج الذين عايشوا حكم سلطات قسد، إذ منح لأفرادها السابقين حماية غير مستحقة، بينما بقي السكان عاجزين عن حماية أنفسهم من المفخخات والاعتداءات التي ينفذها التنظيم، والذي لا يزال يتمركز على مقربة من حدود المدينة. وبينما يدّعي أنه يمثل قوات ديمقراطية، إلا أن الديمقراطية الوحيدة التي يمارسها هي ديمقراطية الدم، حيث يوجه مفخخاته وصواريخه ورصاصه نحو الأطفال والشيوخ والنساء، مفرقًا دماءهم بدم بارد.
تتستر ميليشيات قسد بشعارات التحرر وحقوق المرأة، لكنها في الواقع لا تزال تحصد أرواح أهل منبج، مخلفةً شوارع ممتلئة بالدماء. كانت للمدينة مكانتها وتاريخها، حتى احتلها هذا التنظيم وسعى إلى طمس هويتها، وحفر شبكة أنفاق تحت مدارسها ومؤسساتها، ولوّث صفو حياتها بدماء أبنائها. ولم يكتفِ بذلك، بل ما زال يعاقب سكانها بقطع الماء والكهرباء، وكأن معاقبة الناس على هويتهم أصبح جزءًا من سياسته.
ديمقراطية الدم التي لا تخجل من القتل لم تكتفِ بإزهاق الأرواح، بل تسللت في وضح النهار، متخفية بمفخخات، استهدفت حتى النساء العاملات، اللواتي كنّ في طريقهن إلى وظائفهن، يرددن على مسامع أبنائهن “صباح الخير”، دون أن يدرين أن الموت كان بانتظارهن على الطريق، قبل أن يصلن إلى أماكن عملهن.
فأي معادلة هذه التي تجمع بين الديمقراطية والموت المفخخ؟! وأي سلطة أمر واقع تقوم على هذا التناقض الصارخ، إلا لتنهار؟!
إنها معادلة ميليشيات خارج كل قوانين الحياة، وغريبة عن أهل الأرض التي اغتصبتها بالقوة.
شاهد أيضاً : أحمد الشرع يكشف جوانب من حياته الشخصية والسياسية