مقالات الرأي

السويداء بين مطرقة التوظيف الأمني وسندان الفوضى

مقاربة تحليلية لمشهد مأزوم

منذ أكثر من ثلاثة قرون، تشكّلت في السويداء بنية اجتماعية خاصة تقوم على التداخل بين مكوّنين رئيسيين، الدروز الذين يشكلون الغالبية، والعشائر البدوية، ممن تقاسموا الجغرافيا والموارد والتاريخ الممتد في هذا الإقليم الجبلي. هذا التعايش المتجذر كان في أوقاتٍ سابقة مصدرًا للتعاون والتكامل في مواجهة التحديات الخارجية، إلا أنه لم يخلُ من فترات تنافس وصراع كان يعاد إنتاجها بفعل عوامل داخلية وخارجية، وفي مقدمتها توظيف الأنظمة السياسية لهذا التداخل بما يخدم أجنداتها الأمنية.


النظام السوري، منذ عهد حافظ الأسد، عمد إلى إدارة التنوع المجتمعي في البلاد بسياسة قائمة على الاستقطاب والاختراق والتفكيك، بدلًا من البناء على مقومات التعددية، وقد برزت هذه المقاربة بوضوح في الجنوب السوري، حيث تم تعزيز النفوذ الأمني من خلال شبكات المصالح والتجسس والوساطة، وتغذية الانقسامات الطائفية والمناطقية والعشائرية، لضمان أن تبقى المنطقة تحت السيطرة دون الحاجة إلى مواجهات مباشرة، هذا النمط من السيطرة لم يكن يعتمد فقط على القمع، بل على جعل المجتمعات المحلية تنظر إلى بعضها البعض بعين الشك والريبة، وهو ما أضعف مناعتها الذاتية وعرقل قدرتها على تطوير بنى مستقلة فاعلة.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ظهرت السويداء كحالة استثنائية في المشهد السوري، إذ لم تنخرط في الحراك الشعبي بنفس مستوى مناطق أخرى، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن حليفة مطلقة للنظام، هذا التوازن الدقيق تحوّل لاحقًا إلى موقع رمزي في رفض الانخراط في العنف، خاصة بعد أن لجأ إليها الآلاف من الشباب الرافضين للخدمة العسكرية في جيش النظام، حتى باتت تُعرف بأنها إحدى أكثر المحافظات التي تشهد ظاهرة “التخلف الطوعي عن الالتحاق بالخدمة”، ما أضفى عليها طابعًا مناهضًا للسلطة، ولو بصيغة غير معلنة.
بموازاة هذا التمايز، كانت المنطقة تُستثمر بطرق مختلفة لصالح شبكات السلطة، خاصة فيما يتعلق بالأنشطة غير الشرعية، التي ازدادت مع مرور السنوات، لتصبح تجارة المخدرات، وعلى رأسها الكبتاغون، أحد أبرز الأنشطة الاقتصادية في الجنوب، وقد تكوّنت شبكات تهريب تمتد من الأراضي السورية نحو الأردن والعراق ودول الخليج، وُثّق تورط ميليشيات موالية لإيران و”حزب الله” فيها، إلى جانب أطراف محسوبة على النظام، منها عناصر من الفرقة الرابعة وشخصيات محلية أُعيد توظيفها بعد أن فقدت شرعيتها داخل المجتمع، هذا المسار جرى بتغطية أمنية واضحة، وشراكات تمتد أحيانًا إلى مجموعات من العشائر البدوية، بما يؤكد أن التجارة لم تكن فقط وسيلة للربح، بل أداة للسيطرة والنفوذ وتطويع المجتمعات المحلية ضمن اقتصاد ظل تسيطر عليه المؤسسة الأمنية والعسكرية.
في هذا السياق المتشابك، برزت شخصية الشيخ حكمت الهجري، خصوصًا بعد مقتل شقيقه في ظروف غامضة، حيث تصدّر المشهد كواحد من الزعامات الروحية ذات الكلمة المسموعة، ورغم مواقفه السابقة التي لم تخرج عن سقف النظام، حتى بعد تهجير ملايين السوريين من مدنهم وقراهم، إلا أن نقطة التحول في خطابه جاءت نتيجة خلاف مباشر مع أحد ضباط الأمن، ما دفعه إلى تغيير تموضعه تدريجيًا والانخراط بشكل رمزي في الحراك السلمي الذي انطلق في ساحة الكرامة، هذا التحول، ورغم أنه لقي ترحيبًا شعبيًا عبر الهتاف له في المظاهرات، إلا أنه ظل مشوبًا بالشك، باعتبار أن دوافعه شخصية، وليس نابعة من تبنٍّ عميق لمطالب الثورة أو قناعة بمشروع وطني جامع.
التحولات التي أعقبت تاريخ الثامن من ديسمبر، والذي يُنظر إليه بوصفه نقطة فاصلة في المشهد المحلي، عمّقت تعقيد الواقع الأمني والاجتماعي في السويداء، فذلك التاريخ لم يكن بداية للمواجهات بحد ذاتها، لكنها شكّلت لحظة رمزية أدّت إلى تغيّر في خطاب الشارع وتبدّل في أنماط الاصطفاف. لم يعد العنف حينها حكرًا على جماعات النظام أو أدواته الأمنية، بل تمدّد ليشمل فاعلين محليين من أبناء الجبل وغيرهم، ممن انخرطوا في صراعات تحت عناوين متباينة كالدفاع عن الأرض، أو حماية المجتمع، أو حتى بدافع الثأر، بينما استخدم البعض مظلة الزعامة لتبرير السيطرة أو تصفية الحسابات. ومع تصاعد عمليات التهريب وتفشّي السلاح، تحوّلت بعض الزعامات المحلية إلى مظلات تؤمّن الغطاء للمهربين والفارين من وجه العدالة، واختلط فيها الخارجون على القانون مع من يلتمسون الحماية. فُتحت الساحة أمام من يمتلك المال والسلاح وشبكة النفوذ، على حساب أي مشروع وطني أو مدني جامع.
وفي خضم ذلك، اختلفت طريقة التعامل مع “السلطة الجديدة” التي تصدّرت المشهد بعد ذلك التاريخ، حيث تباينت المواقف بين من يدعمها ويبني الآمال عليها وبين من يرفضها ويرى فيها محاولة لإعادة إنتاج أدوات السلطة، وبين من يعلّق آمالًا مفرطة وغير واقعية عليها، بينما أصرّ البعض الآخر على مطالب محقة، ولكن من دون إطار جامع أو قيادة موثوقة تعبّر عنها، هذا الانقسام أضعف أي إمكانية لتشكيل موقف موحد، وترك المجال مفتوحًا أمام من يسعون لتوظيف اللحظة لتحقيق مصالح آنية لا تمتّ إلى تطلعات المجتمع بصلة.
منتصف الشهر الماضي، دخلت السويداء موجة جديدة من التوتر، شهدت تصعيدًا غير مسبوق تمثّل في اشتباكات عنيفة تخللها تدخل إسرائيلي محدود، كان كافيًا لتأجيج المشاعر وزيادة تعقيد المشهد، وعلى الأرض، انتشرت فيديوهات ومقاطع مصورة توثق انتهاكات جسيمة من عمليات اختطاف وتقييد وتعذيب وسلب وطرد وتهجير قسري وتمثيل في الجثث، نفذتها مجموعات متنوعة، بعضها محسوب على أجهزة أمنية محلية وأخرى على جماعات مسلحة من أبناء المنطقة أو من خارج المنطقة وصلوا إليها للمساندة، اللافت أن الجناة لم يخفوا أفعالهم، بل وثّقوا جرائمهم ونشروها عبر وسائل التواصل، في تعبير فاضح عن غياب أي محاسبة أو ضوابط، وفي تحدٍ صارخ لأي شكل من أشكال الردع الأخلاقي أو القانوني.
في ظل هذه الوقائع، تعذّر بناء سردية موحّدة للمظلومية، رغم محاولات بعض الأطراف لتصوير ما حدث وكأنه نتيجة طرف واحد، متجاهلين أن الانتهاكات ترتكب من أكثر من جهة، وأن التورط في العنف لم يعد حكرًا على النظام وحلفائه. السردية الأحادية تسعى لتبرئة الذات وتعميم التهمة على الخصم، بينما تتجاهل أن الطرفين يتقاسمان مسؤولية إغراق المحافظة في دوامة من الانفلات والفوضى.
المدنيون من مختلف المكونات ، الذين لا يمتلكون أدوات القوة ولا مشاريع النفوذ، وجدوا أنفسهم ضحايا لصراع السرديات، وطُلب منهم اتخاذ مواقف علنية، حتى بات الحياد في حد ذاته تهمة، هؤلاء المدنيون يحملون صورة مشوهة عن الآخر، وذاكرة مبنية على الاضطهاد على أساس الانتماء الديني، سواء كانت هذه الصورة صحيحة أو مشوهة، وهو ما رسخ فكرة التقوقع والاختباء خلف دائرة ضيقة تجمعهم فقط، بالمقابل اختفى الصوت العقلاني للمجتمع المدني ونشطاءه، فمن لم يعارض وجود شخصيات أمنية مثل فادي صقر ضمن لجان السلم الأهلي، لا يمكنه اليوم الادعاء بأن الحملة على الهجري ذات طابع إنساني، ومن تغاضى عن انتهاكات الهجري وميليشياته، لا يملك أخلاقيًا الحق في المطالبة بمحاسبة الآخرين، الصمت على انتهاكات شكيب نصر لا يختلف كثيرًا عن السكوت على فادي صقر، فكلاهما وجهان لخطاب يسعى لتوظيف المظلومية لخدمة أجندات سياسية ضيقة لا علاقة لها بمطالب الناس الحقيقية ولا بأمن المجتمع.
مع تراجع حضور القيادات المدنية التي شكّلت في مرحلة من المراحل العمود الفقري لحراك الكرامة، إمّا نتيجة الموت، أو التهديد، أو الإقصاء، أو الضغط المجتمعي، أو التعرض للانتهاك، سُهلت عملية إعادة إنتاج رموز النظام وتقديمهم كخيار عقلاني أو كضرورة مرحلية، تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار. هذه العودة لا تخدم السويداء، بل تهددها، لأنها تعيد فتح الباب أمام شبكات التهريب، وعلى رأسها تجارة الكبتاغون، وتهيئ الأرضية لإعادة تنشيط ممرات الجريمة المنظمة التي ترتبط بالجنوب السوري، من السويداء إلى الأردن فالعراق فدول الخليج، وهي خطوط تراقبها بقلق بالغ القوى الإقليمية والدولية، وتعمل على قطعها سواء عبر العقوبات أو الضغط الدبلوماسي والأمني.
الرهان على الحلول الخارجية لم يعد مجديًا، وإسرائيل، رغم قدرتها على التدخل، لا تبدو راغبة في الانخراط المباشر، بل تكتفي بإرسال رسائل بين الحين والآخر بأنها ما تزال حاضرة، من دون أن تتحمّل عبء المواجهة أو فرض معادلة جديدة على الأرض، بهذا، فإن إنقاذ السويداء لن يأتي من الخارج، بل من داخلها، من قدرة المجتمع المحلي على إعادة الاعتبار لقيمه وتاريخه، وعلى استعادة المبادرة من أيدي الزعامات المشبوهة والمرتهنة.
الخروج من هذه الدوامة لا يمكن أن يتم عبر استدعاء خطاب المظلومية فقط، بل يستوجب شجاعة في نقد الذات والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف، ووقف الاستسهال في تحميل المدنيين أثمان صراعات لا علاقة لهم بها، لا أحد يملك الحق في تبرير جرائمه بانتهاكات الآخرين، ولا جهة تستطيع ادعاء الطهارة بينما تتواطأ أو تصمت عن الفساد والعنف.
هيبة الدولة لا تستعاد و هناك مدنيين يتعرضون للانتهاكات وكرامة السويداء لا تُستعاد عبر الزعامات المسلحة، ولا من خلال بيانات منمقة تُكتب بلغة خادعة مرتبطة بأجندات سياسية مكشوفة، بل باستعادة صوت المجتمع المدني الحقيقي، وتمكين الشخصيات المعتدلة من أبناء الطائفة الدرزية وغيرهم من الفاعلين المجتمعيين في سوريا ولبنان وسائر البلدان المجاورة، لا بد اليوم من التحرك السريع لإنقاذ ما تبقى من نسيج اجتماعي مهدد، واستعادة المسار نحو مشروع وطني يقوم على العدالة المتبادلة، والمساءلة المتكافئة، واحترام الإنسان، أياً كان انتماؤه. ذلك وحده كفيل بأن يعيد للأهالي حقهم في الحياة الحرة الكريمة، ويمنح السويداء موقعها الحقيقي كقلعة للصمود المدني، لا كأداة في صراع النفوذ وتجارة الدم.

شاهد أيضاً : شركات بواجهات مشبوهة ومليارات بلا شفافية: من يملك مفاتيح الاقتصاد السوري بعد التحرير؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى