تسهيلات .. ولكن ؟ جواز السفر امتيازًا لا حقًا

“انطلاقاً من مقتضيات المصلحة الوطنية العليا، وحرصاً من الوزارة على تخفيف الأعباء عن المواطنين وضمان حصولهم على جوازات السفر بأيسر السبل” – هكذا ورد في ديباجة القرار رقم 1 ش.ق لعام 2025، الصادر عن وزير الداخلية السوري، والذي ينص على تخفيض رسوم استخراج جواز السفر للمواطنين السوريين.

جاء هذا القرار بعد أسبوع فقط من صدور المرسوم الرئاسي رقم 102 لعام 2025، والذي نصّ على زيادة رواتب الموظفين بنسبة 200%، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 750 ألف ليرة سورية.
ويُعد جواز السفر من الوثائق الرسمية الأساسية التي تُصنّف ضمن الحقوق المكفولة للمواطنين والمواطنات، وتقع على عاتق الدولة مسؤولية توفيره دون تعقيدات إدارية أو أعباء مالية وزمنية مرهقة. فحق الحصول على جواز سفر يرتبط ارتباطاً مباشراً بـ حرية التنقل التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة عشرة.
لكنّ جواز السفر، في ظل نظام آل الأسد البائد، كان يُعامل كنوع من الرفاهية النخبوية، في بلدٍ محكوم بقبضة أمنية متغلغلة، تسيطر عليها المحسوبيات والفساد، بينما يعيش غالبية السكان في ظل تدهور اقتصادي حاد وتراجع حاد في القدرة المعيشية، ما جعل السفر خارج البلاد حلمًا بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً.
فقد اقتصر استخراج جواز السفر في العقود الماضية على الفئات القادرة مادياً، وغالباً ما ارتبط بالحالات الخاصة مثل السفر لأغراض السياحة، أو الدراسة، أو العمل، أو أداء فريضة الحج. ورغم محدودية الوصول إليه، كان منح جواز السفر يخضع مسبقاً لدراسة أمنية دقيقة حول الشخص المتقدِّم بالطلب.
أما بعد انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، فقد تحوّل جواز السفر إلى أداة ضغط وتحكُّم بيد نظام الأسد الساقط، إذ تم استخدامه لمعاقبة المعارضين وحرمانهم من حقهم في التنقل، فحُجبت عنهم هذه الوثيقة الأساسية، ولم يتمكّن معظمهم من الحصول عليها إلا عبر طرق غير رسمية، من خلال سماسرة استغلوا ظروفهم وابتزوهم ماليًا.
حتى أولئك المقيمين في مناطق سيطرة النظام، بمن فيهم من يُصنّفون ضمن ما يُسمى “الحاضنة الشعبية”، لم يسلموا من التعقيد والابتزاز، إذ فُرض عليهم الحصول على موافقات أمنية مسبقة، مع دفع رسوم باهظة تفوق دخلهم الشهري بعدة أضعاف، إضافة إلى فترات انتظار طويلة تخضع لمزاجية وتعسف الأجهزة الأمنية.
وقد قدمت الشبكة السورية لحقوق الانسان تقريرا بخصوص الانتهاكات المتعلقة باستخراج جواز السفر
من المتعارف عليه أن استخراج جواز السفر يُعد خدمة أساسية تقدمها الدولة لمواطنيها، غالبًا بتكلفة رمزية لا تهدف إلى تحقيق الربح، بل لتغطية النفقات التشغيلية اللازمة لاستمرار تقديم الخدمة. وتحرص معظم الدول على ألا تُشكّل هذه الرسوم عبئًا يفوق قدرة الفرد أو يُدخله في دائرة الضيق المالي والمعاناة المعيشية.
الرسوم تتناسب ودخل الفرد بكل دولة
في دولة مثل سوريا، حيث تغيب الإحصاءات الدقيقة والمستقلة ذات المصداقية، يبقى المرجع الوحيد المتاح هو ما نصّ عليه المرسوم الرئاسي الأخير، الذي حدد الحد الأدنى للأجور بـ750 ألف ليرة سورية.
وبموجب الزيادة الجديدة في الرواتب، سيصبح راتب الموظف الحاصل على إجازة جامعية عند بداية التعيين نحو 934,542 ليرة سورية. ومع ذلك، فإن مجرد رغبته في استخراج جواز سفر لنفسه فقط يتطلب منه ادخار راتب شهر كامل بالإضافة إلى عشرين يومًا إضافيًا، لتغطية رسوم جواز السفر البالغة 1.6 مليون ليرة سورية.
بمعنى آخر، على هذا الموظف ألا ينفق أي مبلغ على الطعام أو الشراب أو الملبس لمدة خمسين يومًا متواصلة، وهو أمر أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
أما التفكير بالادخار في ظل هذه الظروف، فهو أيضًا أمر شبه مستحيل، خاصة أن تكلفة المعيشة للفرد الواحد تتجاوز حاجز المليون ليرة شهريًا، وفق تقديرات خبراء اقتصاديين، قدّروا في آذار/مارس الماضي أن متوسط تكلفة معيشة عائلة مكوّنة من خمسة أفراد يبلغ نحو سبعة ملايين ليرة سورية شهريًا.
أما إذا افترضنا أن معيل هذه الأسرة قرر استخراج جوازات سفر لجميع أفرادها، فإن حجم العبء المالي يصبح مضاعفًا وخارجًا عن نطاق المعقول… وهنا نترك الحسابات لك، أيها القارئ، أيتها القارئة.
يقول “ع.م”، وهو لاجئ سوري يقيم في فرنسا:
“أنا أعمل هنا وراتبي يتجاوز الحد الأدنى للأجور، كما أتلقى مساعدات من الدولة الفرنسية كوني أبًا لأطفال. عندما تقدّمت لاستخراج جواز سفر اللاجئ، الذي يتيح لي السفر دون تأشيرة داخل الاتحاد الأوروبي (وبتأشيرة وفق متطلبات دول أخرى)، لم تتجاوز الرسوم 45 يورو، أي ما يعادل نحو 5% فقط من الحد الأدنى للأجور في فرنسا.”
أما بالنسبة للمواطنين الفرنسيين، فتُحدّد رسوم استخراج جواز السفر وفق فئات عمرية:
- 96 يورو للشخص البالغ،
- 52 يورو للمراهقين بين 15 و17 عامًا،
- 27 يورو للأطفال من عمر صفر حتى 14 عامًا.
ويُذكر أن الحد الأدنى للأجور في فرنسا يبلغ 1801 يورو شهريًا، ما يعني أن الشخص البالغ يدفع أقل من 5% من دخله الأساسي للحصول على جواز السفر – في تناقض صارخ مع الواقع السوري، حيث تتجاوز التكلفة أضعاف الدخل الشهري للمواطن.
في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون جواز السفر حقاً بديهياً لكل مواطن، تُحوّله السلطة السورية إلى امتياز طبقي مرهون بالقدرة على الدفع، والموافقة الأمنية، والمزاج السياسي. فما تقدّمه الدولة على أنه “تسهيلات” لا يعدو كونه تجميلًا لوضع مختلّ في جذوره، حيث يدفع المواطن ثمن وثيقته الشخصية من قوته، وربما من كرامته.
إن المقارنة مع دول مثل فرنسا، حيث لا تتجاوز رسوم الجواز نسبة رمزية من دخل الفرد، تكشف فجوةً أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية، بين دولة تعتبر مواطنيها شركاء في الحقوق، وأخرى تتعامل معهم كخزائن مفتوحة وجيوب مستباحة.
تسهيلات… ولكن؟
حين يكون الحق مشروطًا، والمستند الشخصي حكرًا على من يستطيع شراءه، فإننا لا نتحدث عن “خدمة”، بل عن نموذج تسلطي يحوّل البديهي إلى معركة، والحق إلى امتياز، والمواطن إلى مُمتحَن في قدرته على الصبر والإنفاق والخضوع.
ما يحتاجه السوريون اليوم ليس تخفيض رسومٍ على ظلم، بل استرداد حقوقٍ منتهَكة، تبدأ من كرامة الإنسان وتنتهي بجواز سفر يُعطى لا يُنتَزع.
شاهد أيضاً : هل يشهد الشمال السوري إقصاءً ممنهجًا وعزلاً على مختلف الأصعدة؟