سورياقصص

محمد… من طفلٍ يحمل التمر إلى شاهدٍ يوثّق الثورة بالكاميرا

إدلب – خاص

في زوايا الذاكرة السورية، تتوارى قصص كثيرة تحت ركام الحرب، لكن بعضها يطفو كنارٍ لا تنطفئ، كشاهدٍ على الظلم، ورسالةٍ تأبى النسيان. محمد زعرور، الذي بدأ رحلته كطفل يوزّع التمر على المتظاهرين، لم يكن مجرد شاهد على المأساة، بل أصبح صوتًا ينقل الحقيقة بعدسته. من طفلٍ بريء في مظاهرة، إلى مصوّر يواجه الموت كل يوم، قصة محمد ليست مجرد سيرة ذاتية، بل شهادة على حقبة كاملة من الألم والمقاومة.

بداية الحكاية: تمرٌ في ساحة الساعة

كان ذلك في الثالث عشر من يناير 2012، حين وقف محمد، ابن العاشرة، وسط حشود المتظاهرين في ساحة الساعة بمدينة إدلب. لم يكن يدرك تمامًا معنى الثورة، لكنه شعر بدقات قلبه تتسارع مع الهتافات. في يده كيس تمر، يوزّعه على المتظاهرين كرمزٍ بسيط للتضامن، لكنه لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيغيّر حياته للأبد. دقائق معدودة، وامتلأت الساحة بالغاز المسيل للدموع، وأصوات الصراخ، وركضٍ محموم نحو النجاة. “لم أفهم كل شيء حينها، لكنني شعرت أنني جزء من شيء أكبر”، يقول محمد، مستعيدًا تلك اللحظة التي انتزعته من الطفولة إلى عالمٍ آخر.

الكاميرا… السلاح البديل

مع مرور السنوات، لم يعد محمد مجرد شاهدٍ صامت. حمل الكاميرا، لا لتوثيق الدمار فقط، بل لالتقاط نبض الحياة وسط الخراب. في صوره، لم تكن الحرب مجرد أنقاض، بل أمٌّ تحتضن طفلها في خيمة، شيخٌ يروي حكايات الماضي بين الأطلال، وطفلٌ يبتسم رغم فقدانه ساقه. “لم أكن محايدًا”، يقول محمد، “كنت منحازًا للحقيقة. هؤلاء ليسوا أرقامًا في التقارير، بل بشرٌ لهم أسماء وقصص”.

ذكرياتٌ محفورة في الذاكرة

الحرب سرقت منه لحظاتٍ لا تعوَّض. يتذكر صوت والدته وهي تغني له قبل النوم، وجاره الذي كان يروي له القصص. “لكنني تعلمت أن أبني من الألم جسرًا، لا سجنًا”، يقول محمد، الذي لم يعد ذلك الطفل الذي يحمل التمر، بل شابًا رأى الموت عن قرب، واختار أن يحيا ليحكي قصص الناجين.

“شهدتُ أسوأ ما في البشر”، يضيف، “رأيتُ جنودًا يضحكون وهم يطلقون الرصاص على متظاهرٍ أعزل، لكنني رأيتُ أيضًا شبابًا يعيدون بناء مدرسة تحت القصف، وأمّهاتٍ يقدمن آخر رغيف خبزٍ لغريبات. الحرب تُظهر الوحوش، لكنها تصنع الملائكة أيضًا”.

الحرية… أن تستعيد إنسانيتك

لم تعد الحرية بالنسبة لمحمد مجرد هتافاتٍ في الشوارع. “الحرية هي أن تمشي في الشارع دون خوف، أن تبني بيتًا تعلم أنه لن يُقصف غدًا، أن يكون لصوتك صدى”. لكن الأهم، كما يقول، “أن تستعيد إنسانيتك بعد أن حاولوا تحويلك إلى رقمٍ في حرب”.

هل المصالحة ممكنة؟

بالنسبة لمحمد، جراح السوريين عميقة، لكنها ليست مستحيلة الشفاء. “المصالحة تحتاج إلى خطوة واحدة: الاعتراف بالجرائم”، يقول بحزم. “لا يمكن أن ننسى دماء مئات الآلاف من أجل سلامٍ مزيف”. ومع ذلك، يبقى الأمل حاضرًا: “الشباب السوري تعلّم أن الحرية ثمنها باهظ، لكنه لن يبيعها مرة أخرى”.

قصة محمد ليست استثناءً، بل شهادة على جيلٍ كاملٍ لم يختر الحرب، لكنه رفض أن يكون ضحية صامتة.

شاهد أيضاً الإعلان الدستوري الجديد: شرعنة الاستبداد بواجهة قانونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى