بين التهميش والتزيين: من يكتب مستقبل سوريا

منذ سنوات طويلة، ما زال السوريون يبحثون عن بوصلة حقيقية تُعيد تشكيل دولتهم الجديدة على أساس العدالة والكرامة والمواطنة المتساوية.
ومع بدايات التعافي وبروز بعض الملامح الإدارية والمؤسساتية، يواجه السوريون مفارقة مؤلمة: من شارك في التأسيس، مهمش اليوم، بينما يتصدر المشهد من لم يكن له دور سوى في تزيين واجهات السلطة.
خلال سنوات الثورة، ظهرت نماذج إدارية وتنظيمية مهمة، أبرزها المجالس المحلية، التي كانت تمثل سلطة شعبية فعلية وناجحة في الكثير من المناطق، قدمت خدمات مدنية، ونظّمت حياة الناس وسط انهيار الدولة التقليدية.
هذه المجالس، التي استمدت شرعيتها من الناس، لا من سلطة فوقية، تم إهمالها بالكامل بعد التحرير، وأُقصي معظم قادتها.
كذلك الأمر في النقابات الحرة التي تأسست آنذاك في محاولة لبناء مؤسسات مهنية بديلة عن نقابات النظام البائد. المحامون، القضاة، المهندسون، الأطباء، المعلمون والضباط الأحرار الذين انشقوا عن النظام وكذلك الموظفون الذين انشقوا عن النظام ….لم يتم استيعابهم في الدولة الجديدة، بل تم تجاهلهم أو تهميشهم بشكل شبه كامل، رغم أن غالبيتهم يمتلكون خبرة طويلة ومؤهلات نادرة في زمن الفوضى.
وبدلًا من الاستفادة من هذه الطاقات، شاهدنا استنساخاً لنهج النظام السابق: تعيين أشخاص على أسس الولاء لا الكفاءة، منح مواقع لمجموعات لا علاقة لها بطبيعة العمل، واستخدام عدد من الأحرار كمجرد ديكور تجميلي، دون تمكين حقيقي أو احترام لتاريخهم وتضحياتهم.
هذا كله لا يمكن فصله عن غياب العدالة الانتقالية. فالإقصاء والعزل الإداري والسياسي والاجتماعي للمجرمين السابقين، لم يتم بشكل عادل ومنهجي، بل اختلطت الأوراق بين الصالح والطالح. فأُقصي من يستحق التقدير، بينما تسلّل من أفسد وأجرم إلى مواقع القرار الجديدة.
إن الإهمال المتعمد أو غير المقصود للأحرار الحقيقيين ليس فقط إهانة لتاريخ الثورة، بل خطر حقيقي على مستقبل البلاد. فغياب الكفاءات وتكرار نماذج الفساد السابقة سينتج دولة هشة، ويُعيدنا إلى المربع الأول، وإن تغيّرت الوجوه.
إن الوقت لم يفت بعد. المطلوب اليوم هو:
- إعادة الاعتبار لكل مبادرة ثورية حقيقية، وعلى رأسها المجالس المحلية.
- استدعاء الخبرات السورية المغيبة وتفعيل دورها في المؤسسات.
- مراجعة شاملة لتعيينات الإدارات والمواقع الحساسة.
- تفعيل العدالة الانتقالية كجزء من المصالحة الوطنية الشاملة.
سوريا لا تُبنى بالتزيين ولا بالمجاملات، بل تبنى بالصدق، بالكفاءة، وبتمكين من وقفوا يومًا بوجه الظلم ودفعوا ثمن كلمتهم حريتهم او غربتهم
شاهد أيضاً : السباق الخفي… للعثور على الأسلحة الكيميائية